سر سجون الاعتقال داخل الكنيسة.. محاكم التفتيش

تناولنا في المقالات السابقة سببين من أسباب الثورة ضد الكنيسة، ألا وهما الطغيان الكنسي وفساد الرهبان، واليوم نتعرض لأحد تلك الأسباب التي كانت بمثابة الحقيقة التي أوضحت لعامة الشعب ما كان تحت ستر الكنيسة من ظلم وقسوة، على الرغم من أن المفترض -كما كان يعتقد الناس- أنهم أهل رحمة وزهد، تلك هي محاكم التفتيش.

وقبل أن نتكلم عن محاكم التفتيش وسبب نشأتها يجب أن نقر بحقيقة قاطعة، وهي أن ما كان يحدث في محاكم التفتيش من صور للتعذيب والقتل لم يصل إليها العسكريون أنفسهم، ولذا كان سلاح محاكم التفتيش سلاحًا رادعًا لمن يخالف أوامر الكنيسة أو تظهر منه بوادر اعتراض على آرائها ومعتقداتها، وكان المسلمون في الأندلس من الذين نالوا قسطًا غير قليل من ويلات محاكم التفتيش، حيث كانت الكنيسة تمارس ضدهم تطهيرًا عرقيًا، وقد نجحت الكنيسة في ذلك إلى حد كبير، حتى ما بقي في الأندلس مسلمًا واحدًا.
قال “ول ديورانت” -بعد أن عدد مباذل البابوات وانحرافات رجال الدين-: (وإذا ما عفونا عن بعض هذا الشذوذ الجنسي والانهماك في ملاذ المأكل والمشرب، فإننا لا نستطيع أن نعفو عن أعمال محاكم التفتيش)1.
شهد القرن الثالث عشر تطور منظمة جديدة في الكنيسة هي محكمة التفتيش البابوية، ذلك أنه جرت عادة البابا قبل ذلك الزمان بأن يقوم في بعض الأحيان بتحقيقات أو استعلامات عن الإلحاد في هذا الإقليم أو ذاك، ولكن “إنوسنت الثالث”2 وجد الآن في عقد الرهبان الدومينيسكيين الجديد أداة قوية للقمع، ومن ثم نظمت محاكم التفتيش كأداة تحقيق مستديمة تحت إداراتهم.
(وقد تجلى في الكنيسة عندما وافى القرن الثالث عشر ما يساورها من قلق قاتل حول الشكوك الشديدة التي تنخر بناء مدعياتها بأكمله، وقد تجعله أثرًا بعد عين، فلم تكن تستشعر أي اطمئنان نفسي، وكانت تتصيد الهراطقة في كل مكان، كما تبحث العجائز الخائفات -فيما يقال- عن اللصوص تحت الأسرة وفي الدواليب قبل الهجوع في فراشهن)3.
(وقبل القرن الثالث عشر لم تنزل عقوبة الإعدام إلا نادرًا بالملاحدة والكفار، فأما الآن فإن كبار رجال الكنيسة كانوا يقفون في مائة ساحة من ساحات الأسواق في أوروبا ليراقبوا أجسام أعدائها -وهم في غالبية الأمر قوم فقراء لا وزن لهم- تحترق بالنار وتخمد أنفاسهم بحالة محزنة، وتحترق وتخمد معهم في نفس الحين الرسالة العظمى لرجال الكنيسة إلى البشرية فتصبح رمادًا تذروه الرياح)4.
ولا يفوتنا أن نقول: إن الضحية الأولى لمحاكم التفتيش هم المسلمون الأندلسيون الذين أُبيدوا إبادة تامة بأقسى وأشنع ما يتخيله الإنسان من الهمجية والوحشية، ثم ظلت تمارس أعمالها على مخالفي الكنيسة وإن لم يكونوا مسلمين أو متأثرين بالحضارة الإسلامية، وانتقلت من أسبانيا إلى بقية أقاليم الكنيسة، وكانت المحكمة الأم لها هي “المحكمة المقدسة” في روما، ولا يكاد المؤرخون الغربيون يتعرضون للحديث عنها إلا ويصيبهم الاضطراب، وتتفجر كلماتهم رعباً، فما بالك بالضحايا الذين أزهقت أرواحهم والسجناء الذين أذاقتهم ألوان المر والنكال!
وإذا أردنا أن نلقي نظرة عما كان يحدث هناك بالتفصيل فعلينا أن نتأمل تلك القصة التي حدثت بعد الثورة الفرنسية.
هذه القصة هي ما سنعرض في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـ قصة الحضارة (21/86).
2ـ “إنوسنت الثالث” ولد في أجناني بإيطاليا، عاش ما بين الفترة (1160م-1216م)، تولى منصب البابوية عام 1198م، ويعد من أبرز بابوات القرون الوسطى، وكانت أكثر إسهاماته وضع مذهب خاص حدد سلطة البابا إلى يومنا هذا، كان أحد الذين دعوا إلى الحملة الصليبية الرابعة والخامسة.
3ـ معالم تاريخ الإنسانية، (3/902-903).
4ـ معالم تاريخ الإنسانية، (3/908-909).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *