انتشرت في عصرنا الحالي بعض الدعوات إلى التقارب مع من يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتخذ ذلك دينا وقربة؛ بدعوى جمع شتات الأمة ومحاربة عدوها الأكبر؛ وتجاوز خلافات عفا عنها الزمن!
وقد تأثرت بعض الجماعات الإسلامية المحسوبة على صفوف أهل السنة بهاته الدعوى الخطيرة؛ وأخذت تروج لهذا التقارب المزعوم؛ ضاربة بعض الحائط كل النصوص الشرعية والأقوال المرعية الواردة عن أئمة الإسلام وأعلامه.
وقد كان غياب الاهتمام بالجانب العقدي والانشغال عنه بالإغراق في الأمور السياسية والفكرية أحد أهم المداخل التي أوتيت منها هاته الجماعات، علما أن الاهتمام بالواقع والسعي في سبيل تحقيق الوحدة الإسلامية أمر مطلوب بل واجب؛ لكن ليس على حساب العقيدة، ذلك أن الطعن في الصحابة له نتائج خطيرة ومساوئ كثيرة يمكن أن نجملها فيما يلي:
أولاً: الطعن في صحة نقل القرآن
لقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم على محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي وأمره بتبليغه للناس ولكي تكون المعجزة أكبر كانت البيئة التي عاش فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيئة أمية.
وتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القرآن عن طريق الوحي فكان يحفظ ما يلقيه إليه الروح الأمين في قلبه، ثم يبلغ ما تلقاه صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة فمنهم من كان يكتب ذلك ومنهم من كان يكتفي بالسماع، وهكذا استمرت الحال إلى أن اكتمل نزول القرآن وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن مكتوب في الألواح والأكتاف والعسب واللخاف ومحفوظ في صدور الرجال كلاً أو بعضاً، إذ كان منهم من يحفظه كله ومنهم من يحفظ بعضه.
فإذا كان الصحابة رضي الله عنهم مطعوناً فيهم كما يروي البعض فكيف نطمئن إلى أن ما نقرأه من القرآن هو عين ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، إن المرء لا يستطيع إلا أن يشك في خبر من هو مطعون فيه، إن لم يردّه جملة وتفصيلاً.
والقرآن الكريم نفسه يحثنا على هذا المنهج القويم فيقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).
فيجب التأكد من خبر الفاسق، وكيف التأكد من خبر جميع رواته مطعون فيهم إلا قليلاً منهم، وليس لنا طريق لنقله سواهم، وعلى هذا يجب رد خبرهم جملة وتفصيلاً وإهمال ما جاء به من حكم وأحكام مهما كان شأنها في الدين وموقعها من الشريعة.
قد يقول قائل إننا لا نطعن في جميع الصحابة، وإنما نطعن في بعضهم، فلا يلزم من كلامنا الطعن في صحة نقل القرآن. نقول: هذا كلام باطل، لأن القرآن نقل عن الصحابة بمجموعهم لا عن أشخاص معينين منهم، فقد يكون من وقع عليه الطعن وافر الحظ في عملية جمع القرآن وتدوينه، أو ممن كان يكتب الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: الطعن في السنة المطهرة
“السنة مع القرآن على جهتين: الأولى: بيان وتفسير ما جاء في القرآن، ففي القرآن آيات مجملة، أو مطلقة أو عامة فالسنة هي التي بينت المراد منها بتفصيل المجمل، وتقييد المطلق، وتخصيص العام… والثانية: إضافة أحكام جديدة لم يرد بها نص من القرآن، فقد حرمت السنة لبس الحرير والذهب على الرجال، وحرمت لحم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطيور”، فإذا كان للسنة هذه المنزلة فكيف يسوغ لنا أن نطعن في الذين تلقوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم وحدهم الشهود عليها، فإذا رفضناهم فإلى مَن نيمم وجوهنا؟! وعلى من نعتمد في معرفة هدي نبينا؟
وقد سأل هارون الرشيد أحد الزنادقة قبل أن يضرب عنقه: لماذا كان الصحابة أول ما تتجهون إلى تشويه صورتهم؟ أجابه قائلاً: لأننا إذا تمكنا من الطعن فيهم نكون قد أبطلنا نقلة الشريعة، فإذا بطل الناقل أوشك المنقول أن يبطل. (تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 4/308).
فهل يجوز بعدها أن نطلق ألسنتنا فيهم؟ إننا إن فعلنا هذا نكون قد حكمنا على ديننا بالهزال وعلى أنفسنا بالخسران.
ثالثاً: تكذيب نصوص كثيرة من الكتاب والسنة
إن الطعن في الصحابة يؤدي صراحة إلى الطعن والتكذيب السافر في كثير من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة التي تشهد بعدالتهم وحسن سريرتهم وسمو مكانتهم، وتصرح برضا الله تعالى عنهم، وحسن ثوابه لهم، وأنهم كانوا خير أصحاب لخير رسول، بل كانوا خير أمة أخرجت للناس.
وها هي بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تشهد بعدالتهم وفضلهم والتــي لا يسع أحد إغفالها أو تجاوزها؛ كقوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، وقوله سبحانه: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}.
فهذه الآيات وكثير غيرها تقطع بعدالة الصحابة رضي الله عنهم وتثبت أن بواطنهم كان يملؤها الإيمان فامتلأت سكينة وأمناً فهل نرد هذه الآيات من أجل أهواء ألقاها الشيطان في زوايا بعض العقول؟
إن التفوه بالنيل من الصحابة هو تجريد لله عن العلم -تعالى الله عن ذلك- إذ كيف يرضى عن قوم امتلأت قلوبهم نفاقاً وأهواء وحباً للجاه والسلطان. إذن فنحن بالخيار إما أن نصدق الله فيما أخبرنا به من أن الصحابة قد نالوا رضاه بما امتلأت به قلوبهم من صادق الإيمان وكامل اليقين، وإما أن نرد هذه الآيات ونسمح لمن يريد أن يطعن في الصحابة؟!!
رابعاً: الطعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم
من مفاسد الطعن في الصحابة الطعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهم تلامذته الذين كانوا يحيطون به صلى الله عليه وسلم وكان يأنس بهم ويتحدث إليهم؛ فكان يحبهم ويحبونه، وكانوا يجتهدون في أن تكون حياتهم بحركاتها وسكناتها مطابقة لحياته صلى الله عليه وسلم.
وقديماً قالت العرب:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
وفي هذا الخصوص يقول الإمام مالك: (إنما هؤلاء قوم أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه حتى يقال رجل سوء ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين أو كما قال) (حكم سب الصحابة).
خامساً: فشل الإسلام كدين صالح للتطبيق
النتيجة الخامسة للطعن في الصحابة هي أن الإسلام دين لم يطبق في يوم من الأيام وأنه غير صالح للتطبيق وأن تعاليمه إنما هي مُثُل تحلق في الفضاء. نعم، إذا آمنا بفسق الصحابة وارتداهم والعياذ بالله وهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عاينوا معجزاته بأعينهم وسمعوا آيات الله وهي تتلى خلف صياصيهم على لسان نبيهم، ثم لا تلج هذه الآيات إلى قلوبهم فما معنى هذا؟ معناه أنهم قد طلب منهم ما لا طاقة لهم به أو أنهم ليسوا من البشر.
وإذا كان الصحابة وقد عاشوا حياتهم كما نعرفها، جهاداً في سبيل الله بالمال والنفس والولد ومفارقة الأرض والأحباب في سبيل نشر دعوة الإسلام.. إذا كان كل هذا يعد نفاقاً وفسقاً وارتداداً، فما هو معنى الإيمان الذي نريد أن نحققه والذي عجز الصحابة رضوان الله عليهم عن الوصول إليه؟
لا ندري ماذا سيبقى من الإسلام إذا طعن في الصحابة وقد علمنا أن الطعن فيهم ينجم عنه سحب الثقة من القران والسنة وينجم عنه الطعن في شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتصوير الإسلام ديناً بعيداً عن واقع التطبيق؟!
إن الإصرار على هذا الموقف لا يمكن المسلمين أن يجتمعوا في يوم من الأيام، ما دام فيهم من ينظر إلى الصحابة هذه النظرة السوداء الحاقدة المارقة؛ {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}. (انظر: الصحابة ومكانتهم عند المسلمين؛ محمد الدليمي).