السلطان عبد الحميد بن عبد المجيد الأول هو السلطان الرابع والثلاثون من السلاطين العثمانيين، ولد يوم الأربعاء 16 شعبان 1258هـ/21 شتنبر 1842م، تعلّم اللغتين العربية والفارسية، ودرس كثيرًا من الكتب الأدبية على أيدي أساتذة متخصصين، قدَّم خدمات جليلة للدولة العثمانية في مختلف المجالات، ويعتبر أعظم سلطان في عصر انحطاط الدولة.
تُوفي في 27 ربيع الثاني 1336هـ/10 فبراير 1918م، إثر نزيف داخلي، عن عمر يناهز الثامنة والسبعين.
تولى السلطان عبد الحميد الثاني الخلافة، في 11 شعبان 1293هـ/31 غشت 1876م، وتبوَّأ عرش السلطنة يومئذٍ على أسوأ حال، حيث كانت في منتهى السوء والاضطراب، سواء في ذلك الأوضاع الداخلية أوالخارجية.
سوء الأوضاع الخارجية
أما الأوضاع الخارجية فقد اتفقت الدول الغربية على الإجهاز على الدولة التي أسموها “تركة الرجل المريض”، ومن ثم تقاسُم أجزائِها، هذا بالإضافة إلى تمرد البوسنة والهرسك، الذين هزموا الجيش العثماني وحاصروه في الجبل الأسود، وإعلان الصرب الحرب على الدولة بقوات منظمة وخطرة، وانفجار الحرب الروسية الفظيعة التي قامت سنة 1294هـ/1877م، وضغط دول الغرب النصرانية على الدولة لإعلان الدستور وتحقيق الإصلاحات في البلاد، بالإضافة إلى قيام الثورات في بلغاريا بتحريض ومساعدة من روسيا والنمسا.
سوء الأوضاع الداخلية
وأما الأوضاع الداخلية: فقد أفلست خزينة الدولة وتراكمت الديون عليها، حيث بلغت الديون ما يقرب من ثلاثمائة مليون ليرة، كما ظهر التعصب القومي والدعوات القومية والجمعيات ذات الأهداف السياسية، بإيحاء من الدول الغربية المعادية، ولا سيما إنجلترا، وكانت أهم مراكز هذه الجمعيات في بيروت واستانبول، وقد كان للنصرانية دورها الكبير في إذكاء تلك الجمعيات التي أنشئت في بيروت والتي كان من مؤسسيها بطرس البستاني (1819م-1883م) وناصيف اليازجي (1800-1817م).
وأما الجمعيات التي أنشئت في استانبول فقد ضمت مختلف العناصر والفئات، وكان لليهود فيها دور كبير، خاصة يهود الدَوْنَمة، ومن أشهر هذه الجمعيات “جمعية تركيا الفتاة” التي أُسست في باريس، وكان لها فروع في برلين وسلانيك واستانبول، وكانت برئاسة أحمد رضا بك، الذي فتن بأوروبا وبأفكار الثورة الفرنسية. وقد كانت هذه الجمعيات تُدار بأيدي الماسونية العالمية.
ومن الأمور السيئة في الأوضاع الداخلية أيضًا، وجود رجال كان لهم دور خطير في الدولة قد فُتنوا بأوروبا وبأفكارها، وكانوا بعيدين عن معرفة الإسلام، ويتهمون الخلفاء بالحكم المطلق، ويطالبون بوضع دستور للدولة على نمط الدول الأوروبية النصرانية، ويرفضون العمل بالشريعة الإسلامية.
أعمال السلطان عبد الحميد
وفي وسط هذه التيارات والأمواج المتلاطمة تقلد السلطان عبد الحميد الحكم، وكان عليه أن يسير بالدولة إلى شاطئ النجاة والأمان دون أن يعرضها للخطر. وقد أدرك رحمه الله بما أنعم الله عليه من ذكاء وفطرة أهداف الأعداء وأطماعهم، فتحمل المسؤولية بكل قوة وحكمة وبدأ في العمل بكل أناة وروية وفق السياسة الآتية:
– أولاً: حاول كسب بعض المناوئين له واستمالتهم إلى صفه بكل ما يستطيع.
– ثانيًا: دعا جميع مسلمي العالم في آسيا الوسطى وفي الهند والصين وأواسط أفريقيا وغيرها إلى الوحدة الإسلامية والانضواء تحت لواء الجامعة الإسلامية، ونشر شعاره المعروف “يا مسلمي العالم اتحدوا”، وأنشأ مدرسة للدعاة سرعان ما انبث خريجوها في كل أطراف العالم الإسلامي الذي لقي منه السلطان كل القبول والتعاطف والتأييد لتلك الدعوة، لكن قوى الغرب قامت لمناهضة تلك الدعوة ومهاجمتها.
– ثالثًا: قرَّب إليه الكثير من رجال العلم والسياسة المسلمين واستمع إلى نصائحهم وتوجيهاتهم.
– رابعًا: عمل على تنظيم المحاكم والعمل في “مجلة الأحكام العدلية” وفق الشريعة الإسلامية.
– خامسًا: قام ببعض الإصلاحات العظيمة مثل القضاء على معظم الإقطاعات الكبيرة المنتشرة في كثير من أجزاء الدولة، والعمل على القضاء على الرشوة وفساد الإدارة.
– سادسًا: عامل الأقليات والأجناس غير التركية معاملة خاصة، كي تضعف فكرة العصبية، وغض طرفه عن بعض إساءاتهم، مثل الرعب الذي نشرته عصابات الأرمن، ومثل محاولة الأرمن مع اليهود اغتياله أثناء خروجه لصلاة الجمعة، وذلك لكي لا يترك أي ثغرة تنفذ منها الدول النصرانية للتدخل في شؤون الدولة.
– سابعًا: عمل على سياسة الإيقاع بين القوى العالمية آنذاك لكي تشتبك فيما بينها، وتسلم الدولة من شرورها، ولهذا حبس الأسطول العثماني في الخليج ولم يخرجه حتى للتدريب.
– ثامنًا: اهتم بتدريب الجيش وتقوية مركز الخلافة.
– تاسعًا: حرص على إتمام مشروع خط السكة الحديدية التي تربط بين دمشق والمدينة المنورة لِمَا كان يراه من أن هذا المشروع فيه تقوية للرابطة بين المسلمين، تلك الرابطة التي تمثل صخرة صلبة تتحطم عليها كل الخيانات والخدع الإنجليزية، على حد تعبير السلطان نفسه.
السلطان عبد الحميد واليهود
لما عقد اليهود مؤتمرهم الصهيوني الأول في (بال) بسويسرا عام 1315هـ/1897م، برئاسة “هرتزل” (1860م-1904م) رئيس الجمعية الصهيونية، اتفقوا على تأسيس وطن قومي لهم يكون مقرًا لأبناء عقيدتهم، وأصرَّ “هرتزل” على أن تكون فلسطين هي الوطن القومي لهم، فنشأت فكرة الصهيونية، وقد اتصل “هرتزل” بالسلطان عبد الحميد مرارًا ليسمح لليهود بالانتقال إلى فلسطين، ولكن السلطان كان يرفض، ثم قام “هرتزل” بتوسيط كثير من أصدقائه الأجانب الذين كانت لهم صلة بالسلطان أو ببعض أصحاب النفوذ في الدولة، كما قام بتوسيط بعض الزعماء العثمانيين، لكنه لم يفلح، وأخيرًا زار السلطان عبد الحميد بصحبة الحاخام (موسى ليفي) و(عمانيول قره صو)، رئيس الجالية اليهودية في سلانيك، وبعد مقدمات مفعمة بالرياء والخداع، أفصحوا عن مطالبهم، وقدَّموا له الإغراءات المتمثلة في إقراض الخزينة العثمانية أموالاً طائلة مع تقديم هدية خاصة للسلطان مقدارها خمسة ملايين ليرة ذهبية، وتحالف سياسي يُوقفون بموجبه حملات الدعاية السيئة التي ذاعت ضده في صحف أوروبا وأمريكا. لكن السلطان رفض بشدة وطردهم من مجلسه وقال “إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبا فلن أقبل، إن أرض فلسطين ليست ملكي إنما هي ملك الأمة الإسلامية، وما حصل عليه المسلمون بدمائهم لا يمكن أن يباع، وربما إذا تفتتت إمبراطوريتي يوما يمكنكم أن تحصلوا على فلسطين دون مقابل”، ثم أصدر أمرًا بمنع هجرة اليهود إلى فلسطين.
عندئذ أدركت القوى المعادية ولا سيما الصهيونية العالمية أنهم أمام خصم قوي وعنيد، وأنه ليس من السهولة بمكان استمالته إلى صفها، ولا إغراؤه بالمال، وأنه مادام على عرش الخلافة فإنه لا يمكن للصهيونية العالمية أن تحقق أطماعها في فلسطين، ولن يمكن للدولة الأوروبية أن تحقق أطماعها أيضًا في تقسيم الدولة العثمانية والسيطرة على أملاكها، وإقامة دويلات لليهود والأرمن واليونان.
لذا قرروا الإطاحة به وإبعاده عن الحكم، فاستعانوا بالقوى الشريرة التي نذرت نفسها لتمزيق ديار الإسلام، أهمها الماسونية، ويهود الدونمة، والجمعيات السرية (الاتحاد والترقي)، وحركة القومية العربية، والدعوة للقومية التركية (الطورانية)، ولعب يهود الدونمة دورًا رئيسًا في إشعال نار الفتن ضد السلطان.
وكان من وراء الجميع وكالة المخابرات المركزية البريطانية التي كانت تمسك الخيوط جميعها، حتى تم عزل السلطان وخلعه من منصبه عام 1909م، تمهيدا لإلغاء الخلافة الإسلامية على يد العميل كمال أتاتورك، وتم ذلك سنة 1924م.