الإسلام هو دين الله الخالد، وهو الاستسلام لله جل وعلا بالتوحيد، والانقياد له سبحانه وتعالى بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
وهو الدين الذي يحكم الحياة بأسرها، وهذا ما يميزه عن سائر الأديان، لذلك تراه مستهدفا من جميع الأفكار الوضعية، لأنها على يقين تام بأنه يزاحمها في “معاقلها” الدنيوية.
ومن بين هذه الأفكار: العلمانية، التي لا مفهوم لها في السياق الإسلامي، دون تمويه أو مراوغة، ودون كثرة الفلسفات والتفسيرات حولها، إلا أنها فصل للإسلام عن حياة الناس أفرادا وجماعات ومؤسسات ودولة. على الرغم من الكلام المعسول الذي يتفوه به بنو علمان تقية، ومرحليا. لأن الناظر إلى سلوكهم، لا يخفى عليه أنهم يسلكون أسلوب التدريج، الذي يتخلله التركيز على ضرب بعض المعلوم من الدين بالضرورة، لإحداث الصدمة، قصد خلخلة التوازن المفاهيمي والقيمي، ثم إعادة تشكيل هذا التوازن، لإحلال مفاهيم وقيم “جديدة”، يستمرئها الناس مع مرور الزمن، لأن العادة تولد البلادة.
إنهم يسلخون الإسلام سلخا، وينتزعون أحشاءه، ويوزعون لحمه وشحمه في مأدبة اللئام، ويكسرون عظامه ويفتونها فتا، فيسفونها سفا. ثم يقولون لك: إن العلمانية تحترم الأديان.
ربما! لكنها لا تحترم الإسلام، لأنها تريد أن تتربع هي على العرش، وتهيمن على جميع مناحي الحياة، ويظل الإسلام تابعا لها وتحت رحمتها، تتفضل عليه بالفتات، حسب هواها، وإن تفتحت شهوتها لذلك. وإلا فهي تلزمه بمعتقداتها هي، وبكل صفاقة ووقاحة ونذالة واستغباء واستحمار، تحاول الإقناع بأن هذا كله لا يتناقض مع الإسلام!
مع أن الحقيقة الواضحة كالشمس في رابعة النهار هي أن العلمانية ومقاصدها لا تمت بأي صلة قريبة كانت أوبعيدة، مباشرة أو غير مباشرة، للإسلام.
ومجمل القول: إن العلمانية نقيض الإسلام جملة وتفصيلا، فأينما حلت انتفى، وحيثما انتفت حل، والنسبة بينهما، كالنسبة بين الفراغ والملاء، حيثما وجد هذا انعدم ذاك، والعكس.
والدليل الساطع، والذي نتجرعه كالعلقم بشكل يومي، هو تعامل بني علمان مع كافة القضايا، إذ يُقْصُون منها العلماء إقصاء تاما، “في احترام كامل للإسلام”! حسب زعمهم. وما هذا الإقصاء إلا لأنهم يعلمون علم اليقين، أن طرحهم ونظرتهم لكل القضايا، مناقضان لطرح ونظرة العلماء ورثة الأنبياء، مهما زوقوا [بنو علمان] ونمقوا ونافقوا.
ومن نفاقهم وتزويقهم وتنميقهم قولهم: إن العلمانية حاضنة للأديان بما فيها الإسلام، وهذا محض افتراء، لأن المقصود هو إذابة الإسلام ليستحيل شيئا آخر غير الدين الذي أنزله رب العالمين، ويصبح هو والعلمانية شيئا واحدا، في اندماج وتسامح حضاريين، تضحى معه العلمانية هي الدين الجديد الذي يبشر به دعاتها، وحينها يقولون لك:
ها نحن حافظنا على دينك، وعندما تلتفت يمنة ويسرة، وأمامك وخلفك، وفوقك وتحتك، وبين يديك، فلن تجد ثمة أي إسلام، بل أطلالا اندرست، يصح أن تقرأ عليها مطلع معلقة امرئ القيس: “قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل”.
وعندما تصبح العلمانية دينا كما أراد لها أصحابها، تنقلب مفاهيمها رأسا على عقب. فالنسبي يمسي مطلقا، لأن التقدم -مثلا- الذي وصلت إليه الحضارة الغربية أمر حتمي بالنسبة لأي أمة تطمح إلى التطور، بمعنى ألا تقدم خارج هذا التقدم، كما يبشر به الغرب ومن خلفه بنو علمان.
ومن المفاهيم المنقلبة عندهم مفهوم القداسة، الذي يعتبرونه ضربا من الخرافة، في حين يقعون في أتونه عندما يقدسون العلمانية والديمقراطية والحداثة، معتبرينها مفاهيم لا يعلو عليها أي مفهوم في بابها، فهي من المقدسات التي لا تحتمل أي نقاش، إذ تنزل بها الوحي الغربي، الذي لا ينم إلا عن كمال بشري، في زعمهم، من أراد تجاوزه وقع في النقصان!
إن أزمة العلمانيين العرب، ومن ضمنهم المغاربة، تكمن إذن في أنهم لا يرون تطورا ولا تقدما إلا تحت سقف ما أنتجه الغرب، يتحدثون عن الحرية، وغاية ما يفكرون فيه، لا يخرج عما وصل إليه أسيادهم، فهم يجترونه كما تجتر البقرة العشب، ليس على المستوى التكنولوجي والعلمي، وليتهم فعلوا، ولكن اهتمامهم منصب على ما هو ثقافي فكري.
إنهم حبسوا أنفسهم في جحر الضب الغربي، زاعمين أنهم في فسحة من أمرهم، والحقيقة أنهم لا يعملون إلا على استنساخ وتقليد تجربة الأنوار، بالمفهوم الصناعي للاستنساخ والتقليد، الذي لا يعني إلا إعادة إنتاج سلعة في أردأ ما يكون.
مع أن أحد أسيادهم المدعو إمانويل كانط يقول: “إن التنوير هو خروج الإنسان من القصور الذي يرجع إليه هو ذاته، القصور هو عدم قدرة المرء على استخدام فهمه، دون قيادة الغير”.
إنهم يقعون في هذا القصور الذي حذر منه أحد أساتذتهم، عندما يختبئون وراء “الكونية”، لأن هذا الاختباء لا يعني إلا عدم قدرتهم على استخدام فهمهم الخاص دون حاجة للغرب، الذي يقبلون كل ما يُوَقِّع ويؤشر عليه، وإن لم يكن من الغرب، خصوصا إذا كان من جهة الإسلام فالرفض والاستهجان سيكون حليفه لا محالة.
إن دعوى “الكونية” هي أيضا دعوة للمطلق على الرغم من ادعاء نسبيتها، وهي دعوة للمقدس الذي يجب التزامه ولو إلى حين. أي دعوة إلى تقديس الغرب في هذه اللحظة التاريخية بغض النظر عن مداها، والتي يؤمن فيها هذا الغرب بقيم معينة، ويلزم بها العالمين!
وفي إطار الجدل بين العلمانية والإسلام يحاول بعض بني علمان التنظير للعلمانية باعتبارها لا تضمر أي عداء للدين، مادامت قد خرجت من تحت عباءة الفكر الديني النصراني ومن رحمه، وليس من خارجه، لأن منظري العلمانية الأوائل كانوا قساوسة، وهذه مغالطة، يمكن الرد عليها بمثال علي عبد الرازق الذي من خلال عباءة الإسلام أراد نسفه.
إن العلاقة بين العلمانية والإسلام لا يمكن النظر إليها من خلال التنظير فقط، بل الحاسم في هذه المسألة هو الواقع الملموس، ومن خلال فهم وممارسة أتباعها لها في الغرب كانوا أو في الشرق، مادامت هي فكر بشري قابل للتغيير والتحول. بدليل تعدد العلمانيات بين علمانية فرنسية وأمريكية وبريطانية واسكندنافية وهلم جرا. إلا أن القاسم المشترك بينها هو خاصية الهيمنة.
هكذا إذن تعيش العلمانية التناقض وترمي به الإسلام الذي يبقى منسجما مع نفسه ومع مفاهيمه، مادام يؤمن بالمطلق والمقدس، ولا يتنكر لهما ثم يتبناهما كما تفعل العلمانية، لأنه يعتقد أن أصل الحقيقة هو الله تعالى، وهو سبحانه منزه عن النقص، والحقيقة التي يخبرنا بها مطلقة لأن صفاته كاملة وهو الحكيم الخبير.
فما بين الإسلام والعلمانية من الانفصال كما بين الثريا والثرى.