منذ دخولي الجامعة لم ينشغل فكري بشيء أكثر مما انشغل بقضايا البحث العلمي وويلاته لما يشهد من تدهور وانحطاط يبعث على الأسى والحسرة على واقعه؛ ذلك أن عناوين الكثير من البحوث شاهدة على الانحطاط والتدهور والتخلف والسبات في اختيار وكتابة المواضيع، وزيارة إلى مؤسسة من مؤسساتنا العلمية ومشاهدة لمآلات البحوث تنبئك بانتكاسة حقيقية لمجال البحث العلمي، والتي كان من آثارها الإهمال وتوقف حركة الجد والاجتهاد بين الباحثين.
ومن أسباب تعثر مجال البحث العلمي إهمال البحوث المقدمة من الطلبة، التي قد لا يقتنع بها الباحث نفسه باعتبارها انعكاسا طبيعيا لمسار غير سليم في المبتدأ والمنتهى؛ ربما كان الهدف منه نيل شهادة والحصول على عمل ووظيفة تعتبر مغنما أكثر مما تعتبر وسيلة فعالة للمساهمة في تقدم المجتمع وتطوره، وتنميته علميا وتزكيته تربويا.
والطلبة الباحثون مدعوون وبإلحاح شديد إلى مساءلة الذات وإبراز الأسباب والأهداف الحقيقية الباعثة على إعداد البحوث واستدعاء الواقع وفقه المرحلة واختيار عناوين البحوث التي تفيد الناس في حياتهم. سيما وأن الفجوة بين البحوث العلمية والواقع تتسع، يوما بعد يوم، حتى أثمرت أوجاعا عديدة في الحياة العلمية المعاصرة، وألقت بظلالها على ما سيأتي من بحوث لاحقة، فولدت قصورا مستحكما، رحاه واحدة، وانضوى الكثير من الباحثين تحت عناوين مبتذلة ومكررة لا تشفي عليلا ولا تروي غليلا.
ثم إن عوار البحث العلمي قد لا ينكشف داخل المؤسسات العلمية التي ألفت أنماطا متناسقة من البحوث بعضها مستوحى من بعض ويصدق أن يقال عليها “ذرية بعضها من بعض”. وسيحتفظ التاريخ بإبداع المتقدمين الذين ننعتهم بالجمود، وبجمود المتأخرين الذين نصف عصرهم بعصر التقدم العلمي، سيما مجال علوم الشريعة الذي هو أكثر المجالات حاجة للمواكبة والتطوير، في وقت يشهد العالم فيه اكتساح العولمة وتحديات مختلفة في كل مرحلة.
والحاجة ماسة لإجراء تحول جذري في أساليب ووسائل اختيار البحوث، وليس مجرد تجديد متوهم في الشكل وتخلف في المضمون. ولعل من الخطوات المهمة والمستعجلة لإصلاح البحث العلمي، أن تقترح المواضيع الجادة من لجان علمية على من لا يحسنون اختيار البحوث، وتعين لجنة متخصصة في دراسة البحوث المقدمة ومدى أهليتها لاستحقاق صاحبها درجة معينة، ويكون المعيار منبثقا من الكفاءة العلمية بعيدا عن المجاملة ومنهج “قضي وعدي” السائد في مؤسساتنا العلمية.
وهذا يستلزم وجود اقتناع راسخ بأهمية الإصلاح وخطة عمل للتطوير يشرف عليها متخصصون أكفاء؛ ليلا تكون قضية الجدة والتجديد في البحث العلمي هواية كلامية ورياضة لسانية وحداثة مزعومة تمليها ضرورة بعض العلوم المجاورة والمواد المتآخية؛ فنكتفي بترديد التجديد لدفع التهم وإيهام الآخرين بالمواكبة مع يقين العجز والتخلف الذي هو حقيقة وواقع ليس له من دافع سوى البحوث الميدانية إن استطاعت أن تثبت عكس ذلك.
وذلك لن يتأتى إلا بعزيمة وإرادة ورؤى استشرافية ومشاريع متكاملة، تدرج في مؤسساتنا العلمية كفاعل حضاري وهذا يستلزم إفساح المجال لذوي الكفاءات لتحقيق التنمية التي نطمح إليها؛ وإسهاما في مضمار الرقي بالبحث العلمي.
وعدم الوعي بأبعاد مشكلات وجمود البحث العلمي أدى وما يزال إلى نتائج سلبية عزلت العلوم عن حياة الناس، وجعلت منها تجريدات ذهنية وتخمينات خيالية بعيدة عن الواقع، وفقدت الكثير من أبعادها الرحبة. ولابد من إيجاد مؤسسات تشرف على اختيار عناوين البحوث لربطها بالواقع ومتطلباته ونسج الصلات بين الباحثين.
معظم الباحثين ينقصهم الوعي الحقيقي بوجود خلل في البحوث فضلا عن الإحساس بالتقويم، وإن وجد هذا الإحساس لدى فئة منهم، فهو محكوم بظروف ضاغطة تنعكس على البحث العلمي سلبا.
ومن الوهن الذي أصاب البحث العلمي اعتبار البحوث ورقات لنيل شهادة ثم تنتهي صلاحيتها بعد تسلم الشهادة، ومؤسف أن تذهب إلى جامعة تسأل عن بحثك؛ فيقال لك معذرة: بحوثكم انتهت صلاحيتها وألقيت في القمامة!
وبسبب مثل هذا الإهمال المتعمد لما يبذل من جهود في مجال البحث دب الوهن في نفوس كثير من الباحثين وسيطر مناخ ثقافي مغشوش على عقول الطلبة، ولا تزال عبارة “كور وعطي لعور” متفشية بينهم ويتواصون بها؛ حتى خلف خلْف أضاع البحث العلمي وأساء إليه “وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا”.
وليس غريبا أن نرى كثيرا ممن اختاروا تخصصات بعينها، يشعرون بعقدة الذنب الداخلي بسبب حصولهم على نقطة معينة في بحوثهم، لتوهمهم أن البحث مرتبط بالنقطة، لذلك نجد بعضهم يتحول عن ممارسة تخصصه، أو ينقطع عنه، وينصرف إلى مهام أخرى بعد تحقيق مبتغاه المنحصر في ورقة علمية قد لا تسمن ولا تغني من جوع.
وهذه الكلمات إسهام في إثارة المشكلة لعلها تثير همم الباحثين لرسم الطريق للخروج من أزمة التخلف العلمي، على مستوى الباحثين والمؤسسات، والمعاهد والجامعات، أملتها ظروف البحث العلمي بمؤسساتنا العلمية.