شرح منظومة العلامة القاضي محمد أبي بكر القيسي الغرناطي التي سماها «نيل المنى في نظم الموافقات» للإمام الشاطبي -رحمه الله- الشيخ مولود السريري

فصل

وما من الأصول فيه يختلف                  والخلف لا يأتي بفقه مؤتنف

فالأخذ بالتصحيح والتزييف                   مـواقـع الخـلـف مـن التكلف

كالفرض تخييرا أو الممنوع                  …………………………….

«و» كل «ما» أي أمر أو موضوع «من الأصول فيه يختلف» ويتنازع «والخلف» فيه «لا يأتي بفقه مؤتنف» مختلف فيه، وإنما الجميع مجمعون على أن الحكم الفقهي المبني على ذلك الأصل المختلف فيه واحد.

«فالأخذ» والاشتغال «بالتصحيح»: جلب الأدلة الدالة على الصحة «والتزييف»: جلب الأدلة الدالة على التزييف والسقوط في «مواقع» -منصوب بنزع الخافض- يعني لمواقع ومواطن «الخلف» ما هو إلا «من التكلف»، فإيراد ذلك في هذا العلم غير سديد.

وذلك «كـ» مسألة «الفرض» رد «تخييرا» يعبر عنه بالواجب المخير، ومثاله كفارة اليمين، فإن الكفارة على الحانث واجبة، ثم هو مخير فيما يكفر به كما في القرآن الكريم «أو» مسألة «الممنوع» تخييرا، ويعبر عنه بالمحرم تخييرا، ومثاله نكاح الأختين، فمن نكحت منهما فإن أختها محرمة عليك، ثم أنت مخير فيمن تحرم منهما بزواج أختها.

…………………………..                   وحالة الكفار في الفروع

«و» كذلك مسألة «حالة الكفار» حكمها «في» شأن تكليفهم بـ«الفروع»، وعبارة الأصوليين: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.

وعبارة الشاطبي في هذا الفصل: «وكل مسألة في أصول الفقه يبنى عليها فقه، إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه، فوضع الأدلة على صحة بعض المذاهب أو ابطاله عارية أيضا كالخلاف مع المعتزلة في الواجب المخير، فإن كل فرقة موافقة للأخرى في نفس العمل»(1).

وهذا الذي ذكره الشاطبي ووافقه عليه الناظم من أن هذه المسائل متفق على الفروع الفقهية المبنية عليها غير مطلق، فإنه قد اختلف في فروع مبنية على الخلاف الأصولي فيها.

…………………………           ………………….. عن الأهلة

وربمـا قـد يفهـم امتناعـه             جواب جبريل عن أمر الساعه

«عن الأهلة» جمعه لا لقائلين له صلى الله عليه وسلم لم تبد دقيقة، ثم تزيد حتى تمتلئ نورا ثم تعود كما بدت ولا تكون على حالة واحدة كالشمس؟ فأنزل الله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} يقول جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم وعدة ومحل دينهم، فلم يجبهم عما سألوا عنه إنما أجابهم بما به ينتفعون، ويكسبهم العلم الذي يوصلهم إلى العمل.

«وربما» رب هنا للتكثير إذ ما بعده هو الذي يغلب على ظنه حصوله «قد يفهم امتناعه» صلى الله عليه وسلم- عن «جواب جبريل» حين سأله «عن أمر الساعة»، كما ورد في حديث عمر المشهور، فقال صلى الله عليه وسلم له: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، فأخبره أن ليس عنده من ذلك علم، وذلك يبين أن السؤال لا يتعلق به تكليف، ولما كان ينبني على ظهور أماراتها الحذر منها ومن الأفعال التي من أماراتها، والرجوع إلى الله عندها أخبره بذلك.

وقد أتى النهي عن السؤال           عن غير ما يفيـد في الأعمـال

وعدم استحسانه من أوجه            منها التشهي وهو عنه قد نهي

والخوض فيما شأنه…….            ………………………………

«وقد أتى النهي» الشرعي «عن السؤال» والاستفهام «عن غير ما» ينفع و«يفيد في» تحصيل «الأعمال» من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «فذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم أنبياءهم» ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كره لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال» لأنه مظنة السؤال عما لا يفيد؛ وغير ذلك من النصوص الشرعية الواردة في هذا الشأن، وكلها دالة على أن السؤال الذي لا يطلب به عمل غير مستحسن.

«وعدم استحسانه» يأتي «من أوجه» متعددة «منها التشهي» أي اتباع الشهوة «وهو» أمر «عنه قد نهي» شرعا، وقد وردت في ذلك نصوص شرعية قطعية، قال تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس}، وقال سبحانه: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا}.

«و» منها «الخوض» والبحث «فيما شأنه» أمره

……………. لا يغني      وأنه شغل بما لا يعني

وأنـه داعـيــة النـفـور       مظنة الفتنـة والغـرور

«لا يغني» لا يفيد ولا ينفع -والغناء بفتح الغين النفع- «و» منها «أنه شغل بما لا يعني» أي لا يهم من جهة الشرع.

«و» منها  «أنه داعية» مجلبة «النفور» والتدابر والكراهية و«مظنة» موطن يظن فيه أنه سبب «الفتنة والغرور» بين الناس، «فإن عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم، ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي إلى التقاطع والتدابر والتعصب، حتى تفرقوا شيعا، وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السنة، ولم يكن أصل التفرق إلا بهذا السبب، حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعني، وخرجوا إلى ما لا يعني، فذلك فتنة على المتعلم والعالم، وإعراض الشارع -مع حصول السؤال- عن الجواب، من أوضح الأدلة على أن اتباع مثله من العلم فتنة أو تعطيل للزمان في غير تحصيل»(2).

ولا يقال العلم باستغراق    مطلب شرعا على الإطلاق

وأنه قد قال بعض الناس    ما في العلوم كلهـا من بـاس

«ولا» يصح أن «يقال العلم» كله «باستغراق» وشمول لكل أصنافه وأنواعه «مطلب شرعا» -بضم الميم وتشديد الطاء وفتح اللام، يقال طلب الشيء وأطلبه، ومنه عبد المطلب؛ فالمطلب والمطلوب معناهما واحد- «على الإطلاق» إذ قد جاء الطلب في تحصيله على صيغ العموم والاطلاق، فتنظم صيغة كل علم -كيفما كان نوعه- ومن جملة العلوم ما يتعلق به عمل، وما لا يتعلق به عمل، فتخصيص أحد النوعين بالاستحسان دون الآخر تحكم.

«و» يعضد هذا «أنه» الضمير للشأن «قد قال بعض الناس» من أهل العلم «ما في» تعلم «العلوم كلها» والاشتغال بها «من بأس» أي من حرج -والبأس أصله اللغوي: الشدة والخوف-.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

-(1) الموافقات، ج.1/ ص.30.
-(2) الموافقات، ج.1/ ص.35.
يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *