معالم بيداغوجية من السنة النبوية 1/2 ذ. محمد ايت العربي زكورة

مقدمة:
إن التربية بمعناها العام، مع اختلاف التعريفات وتباينها، يمكن تعريفها من منظور الشريعة الإسلامية بأنها كل ما من شأنه السعي إلى إحداث تغيير إيجابي في اعتقادات وسلوكات الفرد والمجتمعات، في اتجاه تحقيق العبودية الحقة للباري عز وجل، والسمو بالكائن الإنساني إلى أعلى مراتب تزكية النفس وإصلاح السلوك، كل ذلك لأجل تهيئ النفس والآخرين لنيل السعادة في الدنيا والآخرة.
ونظرا لأن موضوع التربية هو الإنسان كإنسان، فقد تضاربت تعاريف المهتمين تضاربا كبيرا يعزى إلى التضارب في المرجعيات والأيديولوجيات والمنطلقات والاعتقادات، وكذا إلى التباين الكبير في الأهداف والغايات المتوخاة من فعل التربية.
ونتيجة لكل ذلك التباين برزت في الحقل التربوي والتعليمي عدة نظريات حاول أصحابها تحديد بعض المعالم التي على أساسها تقوم نجاعة التربية والتعليم.
ولا يخفى على متتبع منصف بأن نصوص الشريعة الإسلامية قرآنا وسنة، قد سبقت إلى الدعوة إلى كثير من المبادئ والأساليب التربوية التي أضحت الآن من النظريات التي تتسابق المناهج التربوية في جل البلدان المسلمة من أجل الظفر بها ومحاولة استنباتها في حقولها التربوية.
إنه ما من إشكال -من حيث المبدأ- في الاستفادة مما وصل إليه الآخرون في شتى الميادين خصوصا ما له ارتباط بالإنسان باعتباره إنسانا، ولا تتعارض مع معتقداتنا وديانتنا. بيد أن مما يؤسَف إليه أعظم الأسف هو ذلك الاستيراد الجزافي والتنزيل الميكانيكي الذي لا يراعي الشروط السوسيوثقافية المحلية.
في هذه الورقة المختصرة، نحاول بحول الله تعالى استقراء بعض نصوص السنة النبوية المطهرة، وذلك من أجل التأكيد على أن كثيرا من المبادئ والمعالم التربوية والبداغوجية التي يتبناها المنهاج التربوي المغربي وغيره، كانت حاضرة بقوة في الخطاب والتعليم النبوي منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان.
أولا: معالم البيداغوجيا الفارقية
إن علماء التربية الحديثة يقصدون بالبيداغوجيا الفارقية كون التعليم الناجح ينبغي أن يكون قائما على مراعاة اختلاف قدرات وحاجات المتعلمين كل على حده، وكذا استحضار اختلاف وتيرة التعلم من فرد إلى آخر، حتى إن الفرنسي «فيليب ميريو» تجدث عما سماه «بيداغوجيا النادل»؛ بمعنى أن المعلم/المدرس/المربي عليه مراعاة الاستجابة للحاجات الفردية لكل المخاطَبين لكي يكون ذلك التعليم عادلا لا يشعُر معه أي فرد بالإقصاء.
لكن من تتبع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيجد ما يدل على هذا المبدإ التربوي ما تَقرُّ به عينُه:
فعن أبي عمرو وقيل أبي عمرة سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال: «قل آمنت بالله ثم استقم» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني، قال: «لا تغضب» فردد مرارا قال: «لا تغضب» .
ففي هذين الحديثين -وغيرهما كثير- طلب كل من الرجلين الوصية من رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فاختار لكل من السائلين ما يناسب حالته ويُصلِح أمره، وذلك انطلاقا من الحاجة الفردية لكل منهما.
يقول الشيخ ابن العثيمين رحمه الله: (كل إنسان يُخاطَب بما يقتضيه حالُه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم عرف من هذا الرجل أنه غضوب فأوصاه بذلك(…) رجل أتى إليك وقال أوصني، وأنت تعرف أن هذا الرجل يصاحب الأشرار، فيصح أن تقول: أوصيك ألا تصاحب الأشرار، لأن المقام يقتضيه) .
ثانيا: بناء التعلمات على التمثلات
من أهم المبادئ التي يتأسس عليها التعليم الناجع والمثمر، الانطلاق من تمثلات المتعلمين ومكتسباتهم السابقة مما يعطي التعلمات معنى وظيفيا لديهم؛ لأن ذلك يجعلهم فاعلين متفاعلين ومسهمين بشكل أو بآخر في بناء التعلم. والأمثلة على هذا المبدأ التربوي من السنة النبوية أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تنكر، وهذه بعضها.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، و ضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار».
ففي هذا الحديث الجليل -وأمثاله كثيرة جدا- يتجلى انطلاق الرسول عليه الصلاة والسلام من تمثلات الصحابة ومكتسباتهم السابقة، فأجابوا بما يعرفونه عن معنى الإفلاس في عرفهم المعيش، ثم بنى عليه الصلاة والسلام على سابق معرفتهم لكي يعلمهم المعنى الجديد الذي يقصد إليه.
ثالثا: معرفة المتعلم والتدرج في تعليمه
من الشروط التربوية لنجاعة التربية والتعليم، تبَني مبدإ التدرج وفقه الأولويات؛ إذ لافائدة من تعلم الشيء مع الجهل بما هو أولى منه، ويسبق ذلك كله التعرف على المخاطَب.
ومما يدل على اعتبار هذا المبدإ في تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام وتربيته لصاحبته الكرام وللأمة من خلالهم؛ حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افْتَرَضَ عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» .
فتدبر كيف استهل عليه الصلاة والسلام وصيته لمعاذ رضي الله عنه بقوله: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب»، ويفهم منه أن قد تكون لديهم بعض المعلومات (مكتسبات سابقة) حول ما تعلموه من دينهم، مما يجعل معاذا متأهبا لدحض بعض الشبه أو إزالة الإشكالات.
ثم بعد ذلك أمره بأن يعرض عليهم الشهادتين ليكونوا معنيين بخطاب التكليف أولا، وبعدها يأمرهم بالصلاة والزكاة. ويدل مفهوم الشرط (فإن هم أطاعوا لذلك) بأنهم إن لم يطيعوا في النطق بالشهادتين فلا يدعوهم إلى بقية التكاليف الأخرى.
قال ابن العثيمين: (فيه مسائل (…) الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدرج. الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *