عنوان السلسلة حوارات فكرية قناديل لإنارة الطريق .. المقدمة الشعارية للسلسلة الذل والضعف وفساد العمل .. كل ذلك راجع إلى خلل الأفكار. وطريق إصلاحها في الحوار .. وهو طريق طويل تحيط به ظلمات، تحتاج إلى قناديل تزيل غبشها، وتقود إلى الضياء الماثل في آخر النفق.


الحلقة 5:

زاد الطريق -4-

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
القاعدة الرابعة من قواعد زاد الطريق هي: الحذر من مسالك النفس الخفية في اتباع الهوى.
وهي قاعدة إيمانية تربوية!
والحق أن كثيرا من الباحثين في هذه المسائل، يعتنون بالطرائق الاستدلالية وبالمحركات العقلية والمنهجية التي تنبني عليها التصورات الفكرية، وقلما يلتفتون إلى المنطلقات النفسية الباطنة، والمكوّنات التربوية التي لها الأثر البالغ في بناء الفكر، بمعزل عن التسليم للشرع.
وهذا النظر ينبغي أن يكمَّل بما دلّ القرآن عليه من الاعتناء البالغ بمكونات النفس وتقلباتها وأهوائها، وطرق علاجها من أدوائها، كما يعتني بالعقل وبراهينه، ومناهج استدلاله.
وتأمل قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). ألا ترى أن الله تعالى جعل سبب إعراض المشركين عن دعوة الأنبياء في اتباع الأهواء، وفي ذلك أعظم دليل على أن حقيقة النزاع بين الأنبياء وأعدائهم في هذه الدوافع الباطنة، أكثر مما هي في الاستدلالات العقلية. ولخطورة هذه الدوافع، سمّى الله سبحانه الهوى إلها (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا)، إشارة إلى أن الذي يمنع الإنسان من عبادة ربه، هو عبادته إلها آخر، هو: هوى نفسه. وأعظِم بهذا برهانا على خطر الهوى، ووجوب الاهتمام بمدافعته!
قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى (*) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (*) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (*) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (*) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى). فتدبّر موضع اتباع الهوى، من سلوك سبيل الجحيم؛ وموضع نهي النفس ومجاهدتها في هواها، من سلوك سبيل النعيم المقيم!
إن كمال الإنسان من حيث هو في ما ركّبه الله تعالى فيه من فطرة قبول الحق ورفض الباطل، ولكن من حكمة الله تعالى في تقدير الابتلاء على عباده ليستحقوا بمجاهدتهم رضوانَه في الآخرة، أنْ جعل سبيل الحق محفوفا كثيرا بما يخالف هوى النفس من عناء وكبَد ومشقة، وسبيل الباطل مقرونا كثيرا بما يوافق هوى النفس من الراحة واللذة والمتعة. فالسالك إلى الكمال البشري، المستحق لرضا الله وتوفيقه، هو الذي يخالف داعية الهوى في نفسه، ويغالِب نداء الشهوة واللذة، فيرتفع إلى المقام الذي يحمد عليه بين الناس! وإن الذي يتبع هوى نفسه الباطن -وإن غلّف ذلك بحجاب من اتباع العقل أو ستار من دعوى التجرد للحق- يسقط في دركاتٍ يستحق عليها الذمّ والتقريع!
قال تعالى في تقرير الملازمة بين الكمال والارتفاع وترك اتباع الهوى: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ). فاتباع الهوى سقوط ونقص، ومغالبة الهوى ارتفاع وكمال.
ومن قرأ القرآن وأنعم النظر فيه، جزم بأن الله عز وجل يذكّر الأنبياء وأتباعهم من ورائهم، بأن الحق لا يرتفع بناؤه إلا بترك دواعي الهوى القلبية، وأن الهوى إذا اتبع سلك بصاحبه إلى مرابع الضلال: (يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
إن الأصل في المسلم أن يذعن بقلبه وعقله وجوارحه لنصوص القرآن ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، متى صح إسناده، كما قررنا ذلك في مقدمة سابقة. ولكن الأمر لا يكون كذلك إلا حين يكون التلقي صافيا، سالما من كل تلوث يكدّره، ويعسّر على النفس قبول الحق والعمل به.
وللنفس مسالك عجيبة تردّ بها الحق، وتتبع الباطل، يجب على كل سالك إلى الله أن يكون متفطنا لها، قبل أن يسيء من حيث يظن الإحسان، وينحدر في مهاوي الضلال من حيث يتوق إلى السمو في مراقي الاستدلال.
ولهذه المسالك علامات وأسباب، منها على جهة الاختصار:
– أن يضيق الصدر بالحديث الصحيح، فيسعى إلى تلمس التأويلات المتعسفة، والتفسيرات المستكرهة، التي تأباها ضوابط الاستنباط، وترفضها قواعد الفطرة والعقل السليم.
– أن ينشأ الواحد على فكرة ما، أو ينتمي إلى بلد أو طائفة لا تعرف غير تلك الفكرة، ثم يظهر له الحق في خلافها، فيشق عليه الرجوع عنها، ويصعب على نفسه أن تعترف بسابق الخطأ ولو مع لاحق التصحيح! ويدخل في هذا الباب: من يقرر المسألة أحسن تقرير، ويجمع لذلك ما يقدر عليه من الأدلة، ويكثر المنافحة عن قوله ورد أقوال المخالفين؛ ثم يتبين له الخلل في بنائه، والزلل في تقريره السابق، فيكون رجوعه عن قوله ثقيلا عسيرا، بقدر ما كان منه من الجهد في إثباته ابتداء.
– ومن الأسباب المعروفة أن ينبني على الرجوع عن قول معين، الاعترافُ بالجهل عموما، أو في خصوص المسألة المبحوثة. والإقرار بالجهل شاق على النفوس، وتزيد مشقته حين يُحتاج معه إلى السعي لتحصيل العلم من مظانه!
– أن ينبني على القول منفعة دنيوية من جاه أو شهرة أو مال، فيكون في ترك القول وتقرير عكسه ترك ذلك كله. وهذا مما يثقل على النفوس جدا.
– ومن المسالك: الكِبرُ. ومن مظاهره أن يكون المخالِف أقل عددا أو أصغر سنا أو أقل شهرة، فيكون الرجوع إلى قوله مخالفا للكبر المانع من قبول الحق.
ومن تفكّر قليلا، ظهرت له في هذا الباب أمور أخرى كثيرة. وقانا الله سبحانه شرور الهوى بمنه وكرمه.
وإلى لقاء مقبل إن شاء الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *