إن من قصور الفهم وتهافت الفكر أن يخال المرء أن الحملات الاستعمارية قد وضعت أوزارها وأن أهدافها قد انتهت عند بث الفحش والرذائل في المجتمع الإسلامي، كلا إن الخطب أكبر من ذلك والمقصود استئنافا نشر التفكك في جغرافيتنا وعطفا الإتيان على مادة الترابط الوثيق رسالة الإسلام من ألفها إلى يائها؛ حتى يتسنى للمتربص حصول الاستبشار بموات كل فرصة وجهد جهيد كان من سعيه ربط الرافد بمنبعه؛ والرماد ببؤرة موقده الأول؛ وإدماج القطر في فلك الأمة؛ وإرجاع الأخوة في الدين إلى الواجهة ينصر بها المغربي المشرقي ويعضد المشرقي أزر أخيه المغربي؛ ونكون كما قال سيد الخلق في توادنا وتراحمنا كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.
ولن نستغرب مع هذا النشدان العظيم والتراص الرحيم تأبيد الاستعمار لمشروعه المقيت فهو لا يزال ينشب مخالبه في مقاتلنا؛ ويعضنا بأنيابه لينقض غزلنا كلما لاح له في الأفق إمكانية توحدنا؛ ومتى ما رأى أقدامنا وعزائمنا تروم إحياء التمكين الذي عاش في ظله أسلاف الرجل الأبيض يدفعون لأسلافنا العظام الجزية عن يد صاغرة نظير الأمن من الخوف والإطعام من الجوع.
إن هذا التراث النفيس لا يزال يلقن لأحفاد الغرب بصيغ تغدي في أنفسهم مخزون الحقد التاريخي وتؤجج بين ثنايا جوانحهم نيران الانتقام وحب السطو على كل ما هو غال ثمين في أوطاننا الإسلامية، إن الضرورة والحال هكذا تقودنا ولو مؤقتا إلى السعي نحو إشهار الأدوات الفكرية المقاومة من أجل استنزاف قوى المناوئين وتحصيل ذلك الحاصل الذي مفاده حفظ الوطن حالا مع إرجاء عملية تبني مفاهيم الأمة مآلا، فالأقلام الإسلامية والأفمام المنبرية عليها أن تتبنى قضية الوطنية دون الالتفات إلى نبز الذين يريدون أن يعيشوا سلبية الانعزال عن قضايا الوطن والذين انضافوا إلى ضحايا الفكر الإقصائي الذي تناسلته المدرسة العلمانية فأفلحت إلى حد ما في الاستئثار بحق الدفاع عن الثخوم؛ دفاعا مدخونا لا يسمن من جوع ولا يغني من خوف؛ ولكنه دفاع استطاع أن يعطي صورة قاتمة عن كل مشروع إسلامي باسم التطرف والعنف والإرهاب؛ وأن ينسب للمسلمين كل شر وفشل وخصومة خارجية وفتنة داخلية.
إن هذه الأقلام الإسلامية والأفمام المنبرية هي اليوم في أمس الحاجة إلى هذا النوع من التعاطي المحموم لقضية الوطنية دون أدنى استحياء أو لوم ذاتي؛ فمصدر تشريعنا الأول يصدر الأمر تلو الأخر لحصول الامتثال الذي تنال به حظوة الاعتصام الجماعي بحبل الله المتين والترك المحمود لعوامل الفرقة التي هي محض عذاب، وقد تعاطى القرآن لقضية الوطنية باسم الأخوة في غير العقيدة فتناولها باسم الانتساب القومي العشائري؛ فأثبت الأخوة في غير الدين بين نبي الله صالح وقوم ثمود، فقال الله سبحانه وتعالى: {كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون} (الشعراء الآية 140-141)، وبين لوط وقومه فقال الله عز وجل: {كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون} (الشعراء الآية 159-160).
أضف إلى هذا أن إسلامنا جاء لحفظ مقاصد عظمى من بينها حفظ الأرض، ولا شك أن الجغرافيا كانت وستبقى الوعاء الذي تتفاعل فيه الأحداث التاريخية لكل أمة وتنصهر في حوجلته القضايا الكبرى لأي تجمع مدني تربطه وشائج المواطنة التي تدور في فلك الدين واللغة والجنس، ومرادنا من هذا الكلام الإقرار بأن قضية المواطنة هي مسألة من مسائل الشرع على عكس ما يروج له أهل المزايدة رواد المدرسة العلمانية من كون الوطنية أو المواطنة هي أجنة خرجت من رحم الفكر الحداثي وتربت في كنفه حصرا وقصرا. فما أبعد الدعوى عن الواقع سيما أن انتشار العلمانية في أوساطنا قد قوض الفكر المناهض للاختراقات والمقاوم لكل التسللات التي اقتحمت حرمة بيتنا الرصين باسم التفتح والحرية والنعرات العرقية حتى انتشرت سكاكين تمزيق الأوصال باسم الشعوب الأصلية المضطهدة زعما وافتراءا؛ وفسدت الضمائر وتلوثت الأفكار حتى هان على دعاة الانفصال تقديم الأرض والعرض والدين هدايا للجائعين ومطايا للطامعين، ورضي البعض أن ينفصل عن الكل في سرادق وخيم لا تقي شر القر ولا اصطلاء الحر لمجرد اعتبارات واهية مبناها على اختلاف اللهجات وتباين اللكنات، وربما لأن كسكس الشمال من سميد وكسكس الجنوب من شعير وكسكس الوسط من قمح، صاغ للبعض أن يطالب بثلاثة دويلات مقاسها على حجم مداس جندي البحرية الأمريكية، ذلك الغازي الذي تخيف أسياده النظرية الخلدونية نظرية الجغرافية المتسعة والتعداد السكاني الذي تهاب ثخومه الضباع ولا تقوى على اقتحام تلاله السباع.
إن صنعة الانفصال صنعة مادتها ليست مادة إسلامية ولن تكون والتاريخ كمرجع بيننا وبين الذين يسعون جاهدين لتنحية الإسلام كرابط موحد قادر على صهر صلب النعرة وأشابة القبيلة في سراج الدين ومشكاة العقيدة.
والإسلام كدولة لا يلتفت إلى القطرية عن إشباع وقناعة وأهله في مرحلة التفريط قد تضيق رقعة نفوذهم عند اشتداد عوادي التداعي وطغيان أطياف الاستغراب التي تقدح في صفاء الوحدة الأخوية لأهل الدين الواحد؛ ونعني به حصرا دين الإسلام.
فمفهوم الأمة يبقى الكنز المنشود والتتويج المفقود الذي يقف عند عتبة تاجه أي مجهود يتحرك في دائرة الدين الإسلامي الحنيف، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن أهل الإسلام وطنيون وزيادة وهم متميزون في وطنيتهم.. متميزون في قواعد انتمائهم إلى أرض الوطن وسيادته.. ووجه تميزهم أن العقد الذي يجمعهم كمحكومين مع حاكمهم هو عقد شرعي يقوم على تقديم الولاء والبيعة الشرعية امتثالا لله ورسوله، فهم ليس كغيرهم من خريجي المدارس العلمانية والماركسية والشيوعية اللينينية الذين تربطهم بالوطن علائق برغماتية حيث كلما ترهل حبل مصلحة الإطعام من الجوع والأمن من الخوف والاستغناء بغير حق ثارت ثائرتهم فأشهروا سيوف المروق وصوارم الخصومة؛ فأنبتت صحراؤنا مع الاستمطار الغزير نبات شوك وعوسج وتمرغت في رغام الطل أفاعي حقدِهم مجلجلة وإذا ما قدر الله أن غزى الأرض وانتهك العرض معربد على دبابة رأيت الوطنين حقا وصدقا يسارعون إلى حمل البنادق دفاعا عن ثخوم الإسلام المغتصبة بينما تكَتل أهل الوطنية الزائفة يسندون ظهر العدو ويتبعون دجال المصلحة، فأقاموا سرادق الانتخابات؛ وعمروا أسواق البضاعة المزجاة؛ وهرولوا في مسعى خدمة الغازي؛ خدمةُ اللازم منها تأبيد مشروعهم مشروع التنعم بنقمة المال العام والمزايدة بمصالح الوطن الأم مزايدة يبيعون بها البر والبحر والظاهر من الأرض والباطن نسأل الله السلامة والعافية.