الضرب على القفا لمن أنكر التأديب بالعصا (ج5) ذة. لطيفة أسير

مما سلف يتبين أن علماءنا الأفاضل قد سنّوا التشريع بضرب المتعلم وفق شروط وضوابط، تضمن سلامة المتعلم، وتحقق الغاية من الزجر والتقويم لسلوك المتعلم.. وأنه لا يتجاوز هذه الضوابط إلا المعلم الجاهل الذي غفل عن وظيفته التربوية، واستحكمت فيه نزعته السلطوية، فبسط يده على إطلاقها على هؤلاء المتعلمين. ولهذا قرروا عقوبات زجرية لكل من ألحق الضرر بهذا العقاب، حتى أقروا القصاص. فقد سئل الإمام مالك عن معلم لو ضرب صبيا ففقأ عينه أو كسر يده، فقال: إن ضربه بالدِّرّة على الأدب، وأصابه بعودها فكسر يده، أو فقأ عينه، فالدية على العاقلة (قرابته من جهة الأب)، إذا فعل ما يجوز. فإن مات الصبي فالدية على العاقل بالقسامة، وعليه الكفّارة.

فالأصل أن الضرب للـتأديب لا للتعذيب في غير عطب ولا حميّة.

وبعيدا عن ما أُثر عن السلف، هذا نبأ من واقع الحال نقلته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عن العقاب البدني بسنغافـورة، هذا نصه:

(قد لا يكون مفاجئًا للمتابعين في الخارج أن سنغافورة، المشهورة بمعاقبة المخالفين بالضرب بالعصا، تسمح بالعقاب البدني لطلابها ولكن بشرط أن يكون ذلك في الحالات القصوى. فقد شاع الضرب بالعصا كعقاب مدرسي في الأجيال الماضية، لكن تم تنظيمه الآن بشكل صارم بعد تزايد القلق من حدته وقسوته. وتقول وزارة التعليم إن الطالب يُعاقب «في حالة خطورة أو تكرار سوء سلوكه»، ويمكن استخدام الضرب بالعصا في الحالات الشديدة فقط.

وتنص اللوائح بشكل خاص على أن المسموح فقط هو الضرب بعصا خفيفة على راحة اليد أو على مؤخرة الطالب فوق الملابس التي يرتديها، وتُعفى البنات صراحة من هذا العقاب، ويجب أن يكون العقاب مصحوبًا بالنصح والإرشاد والتوجيه والمتابعة، وغالبًا ما يتم إشعار أولياء الأمور أولًا بالأمر.

وقال المعلمون لمراسل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إن العقاب البدني يظل أمرًا نادرًا في المدارس هذه الأيام، ولا يتم اللجوء إليه إلا كخيار أخير. فهناك وسائل انضباط أخرى مثل التوقيف أو الاحتجاز لساعات أطول في المدرسة. ويلجأ المعلمون بوجه عام في البداية إلى تبني موقف النصح والمحاجاة أو النقاش مع الطلاب، خاصة الكبار منهم) اهـ.

النهي عن الشّدة في التأديب

مع الترخيص في استعمال الضرب لتأديب المتعلم، وزجره عند تهاونه أو اقترافه محظورا يستوجب ذلك، نجد عند بعض السلف تشديدا على المعلمين في مسألة ضرب الصبيان، لأن المعلم هدفه الأول التربية والتهذيب، وسبيل ذلك اللين والرفق ابتداء، وليس العنف والشدة. فالضرب استثناء وليس قاعدة في تعامل المعلم مع طلابه.

كحال ابن سحنون الذي شدّد في هذا الأمر، حتى تذمّر منه بعض من كان يعاني مهنة التعليم، وهو أبو إسحاق الجبنياني التونسي المتوفى سنة 369هـ، فقال: (رحم الله أبا عبد الله محمد بن سحنون لو علّم  الصّبيان لرَفق بالمعلمين، يريد أنه شدّد عليهم). وما من شك في توافق نظرة أبي الحسن القابسي مع نظرة محمد بن سحنون في مراعاة الطفولة لأن الأطفال لا يملكون من أمرهم شيئا لصغر سنّهم وبراءتهم في عبثهم ولذا وجب الرفق بهم وإصلاحهم بالإقناع والتّوجيه واللطف. يقول القابسي: (إذا أحسن المعلم القيام وعَنيَ بالرعاية وضع الأمور مواضعها لأنه هو المأخوذ بأدبهم والنّاظر في زجرهم عما لا يصلح لهم، والقائم بإكراههم على مثل منافعهم، فهو يسوسهم في كل ذلك بما ينفعهم، ولا يُخرجهم ذلك من حُسن رفقه بهم ولا من رحمته إياهم، فإنما هو لهم عوض عن آبائهم).

فلا ينبغي أن يكون العقاب لذة منشودة عند المدرس، أو تنفيسًا عن حقد أو غضبٍ، أو وسيلة للانتقام، بل الواجب أن يعتمد مبدأ أساسه المحبة والرفق بعيدًا عن الميوعة والتسيب. قال الإمام سحنون لمعلم ولده أبي عبدالله محمد صاحب كتاب آداب المعلمين: (لا تؤدبه إلا بالمدح ولطيف الكلام، ليس هو ممّن يؤدّب بالضّرب والتّعنيف، واتركه على نحلتي).

وذكر ابن خلدون في مقدمته (فصل في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم) أنّ:

إرهاف الحدّ في التعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الوُلد لأنه من سوء الملكة، ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن… بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل سافلين.

ينبغي للمعلم في متعلِّمه والوالد في ولده أن لا يستبد عليهم في التأديب.. ومن كلام عمر رضي الله عنه: (من لم يؤدبه الشرع لا أدّبه الله)، حرصا على صون النفوس عن مذلة التأديب، وعلما بأن المقدار الذي عينه الشرع بذلك أملك له، فإنه أعلم بمصلحته.

ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين، فقال: (يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة  قلبه، فصيّر يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أقرئه القرآن وعرّفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذ بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تمرّن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقوّمه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة) انتهى ص1119 مقدمة ابن خلدون.

ومن الآثار السلبية كذلك، أنه (يعزل الفرد المعاقب عن المجتمع -إذا كبر به العقاب ولازمه- فيصير حينئذ عدو مجتمعه وتتولّد في نفسه عقدة كامنة للانتقام من الآخرين. ولا يفلح العقاب دائما كوسيلة ردع وتهذيب، بل إنه ليكسب المعاقَب الحذَر والتفنن في تجنب العقاب، فيتعلم المراوغة، وحمل الأقنعة المرضية، وإخفاء الحقائق. وذاك هو الكذب والخبث).

حتى ولو سلمنا بأنّ العقاب يردع المخطئ ويصلحه، فإنّ من مخلّفاته زرع الخوف في النفس، والمباعدة بين المربِّي والمربَّى، فينقطع بذلك الحوار البنّاء بينهما ويفقد المأخوذ بالشّدة شيئا فشيئا ثقته بنفسه وشعوره بكرامته. (كمال دسوقي علم النفس العقابي).

وفضلا عمّا ذُكر من المضارّ النفسانية فإن الإفراط في العقاب لا يعيد بناء الشخصية، بل إنه يميت الحيوية في النفس، والقدرة على الخلق والإبداع. وفي هذا المعنى يقول الدكتور الدسوقي: (أن الأطفال الذين يتربون  في ظل فلسفة منزلية ديمقراطية أكثر احتمالا لأن يكونوا أكثر حيوية، وأشد جرأة، وأكثر قبولا لأن يتزعموا، واستعدادا لأن يرسموا خطط أفعالهم بأنفسهم… أما أطفال الأسر التي أشد رقابة، فالاحتمال أكثر  لأن يكونوا أكثر تقيّدا في ميولهم واستطلاعهم).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *