قال المستشرق الانجليزي «سِلَدون ولمور» كاتب «العربية المحلية في مصر» والذي أكد فيه بكثير من المكر وبكثير جدا من الغباء لزوم الحياد وترك التوجس من إحلال العامية محل اللغة العربية، وأنها اللغة الوحيدة للبلاد: «ومن الحكمة أن ندع جانبا كل حكم خاطئ وجه إلى العامية، وأن نقبلها على أنها اللغة الوحيدة للبلاد، على الأقل في الأغراض المدنية التي ليست لها صبغة دينية، وهناك سبب يدعو إلى الخوف هو أنه إذا لم يحدث ذلك، وإذا لم نتخذ طريقة مبسطة للكتابة فإن لغة الحديث ولغة الأدب ستنقرضان وستحل محلها لغة أجنبية نتيجة لزيادة الاتصال بالأمم الأوربية». وحقيقة كلام الرجل غاية في السفاهة ولن يُقبل إلا من سفيه متسفه.
والمستشرق الإنجليزي «وليام ولكوكس» الذي ألقى محاضرة سماها «لِم لَم توجد قوة الاختراع لدى المصريين الآن؟» محاولا فيها ربط -كذبا وسفاهة- ضعف الاختراع وانحطاط الابتكار في العصور المتأخرة عند العرب بتقيدهم باللغة العربية الفصحى كتابة وتأليفا، ومؤكدا -كذبا وسفاهة- أن كسرهم لحاجز اللغة العربية وكتابتهم بالعامية الشائعة يعيد إليهم من جديد قوة الاختراع والابداع1.
وقطعا الرجل لا يعتقد هذا الذي يقوله وإنما العكس، وإلا عُدَّ من المستشرقين المجانين، إذ كل العلوم والفنون التي برع فيها المسلمون وبرَّزوا فيها من هندسة وفلك وكيمياء وفيزياء وطب وحساب وجغرافيا و…قد ألفوا فيها باللغة العربية.2
وحيث إن هذه الفئة تثير القلاقل بين الأفراد في أصلهم اللغوي، بما يدعو إلى التطاحن أو يقرب من ذلك، وبما يؤدي إلى التهالك شيئا فشيئا، فهي تفزع إلى جعل العنصر الأمازيغي/البربري هو الأصل وأن الآخر الآتِ من الشرق -زعموا- إنما هو مستعمر محتل وأن لا مفر من رفض لغته الدخيلة.
قلت: -وأنا ممن يتقن اللسان الأمازيغي/البربري نطقا وتداولا وأصلا- منهجي في البحث والتحقيق يدفعني إلى الاعتراف ببطلان هذا الطرح، إذ أثبت التاريخ الإنساني/الاجتماعي واللغوي والعرقي للدول المتعاقبة على الشمال الإفريقي «أن البربر لا يشكلون جنسا قائم الذات كما نقول عن الجنس الآري أو القوقازي مثلا، وذلك أن البربر يمثلون عناصر مختلفة في شكلها وأنماط معيشتها، ونظرية (بواسيير) هي أن اللبيين وعنصر الجيتول هم أول سكان الشمال الإفريقي الذين ينتمون إلى عصر الحجر المنحوت وأكثرهم سمر البشرة، وقد اكتسح الآريون بلادهم وهم شقر زرق العيون ينتمون إلى عصر الحجر المصقول»3.
وبذلك لا يمكن عزل البربر عن غيرهم من الأجناس الأخرى وأن نعتبرهم الجنس الأصلي، إذ يظهر التمازج والاختلاط في لون البشرة واللغة، فمثلا كلمة (أكْلْزيمْ)4 بالأمازيغية وتعني الفأس، ترجع في مادتها الصوتية واللغوية إلى (القُلزم) وهي بلغة عربية فصيحة، وكذلك كلمة (أمان) بالأمازيغية وتعني الماء.
ومن هنا قال صاحب «المغرب عبر التاريخ» و«الظاهر أن أفواجا عظيمة من البربر قدمت إلى الشمال الإفريقي عن طريق مصر وليبيا مهاجرة من جنوب آسيا الغربي، وتتكون هذه الأفواج من الكنعانيين الذين قطنوا قديما منطقة لبنان الحالية»5.
فمهما يكن إذن من قبح المناصرة لهذا الجنس أو ذاك، لهاته اللغة أو تلك، لهذا الأصل أو ذاك فإن التاريخ والجغرافيا معا يكسر ذلك ويُهشمه، ويُبقي الحقيقة والعلم المقران بأن الشمال الإفريقي في أصله مزيج من الأجناس والأعراق، وأنه لا يصدق إطلاق لفظة الأمازيغ/البربر على جنس بشري واحد، بقدر ما يصدق على كثير من الأجناس بما فيهم العرب، وأنه لا يصدق إطلاق لفظة العرب في الشمال الإفريقي على جنس بشري واحد، بقدر ما يصدق على كثير من الأجناس بما فيهم الأمازيغ/البربر. و لذلك نرى ما نرى من اختلاف في الأشكال والألوان والطبائع، ومن تمازج في الأشكال والألوان والطبائع.
ــــــــــــــــــــــ
1- المرجع نفسه، ص 359 (بتصرف كثير ).
2- ذكرنا النموذج المصري لكون هذا الاحتلال أسبق إليه من المغرب، ونحن هنا بصدد بيان أُسِّ الفساد ومبدئه مما له تعلق بموضوعنا، ولكون القضية قضية لسان أمة فلانحدها بتاريخ ولا بجغرافيا.
3- المغرب عبر التاريخ، ج1، ص 19، إبراهيم حركات.
4- وفي بعض المناطق ينطقونها ( أكْزِّيمْ ؛ك=ga) بحذف اللام.
5- ج1، ص 20.