إضـــاءاتٌ 4 ربيع السملالي

 

يقول الأديب الرّوائي السّوداني تاج السّر في مقالةٍ له في مجلّة الدّوحة العدد 109 ص 91:

يُصَادِفُك كثيرًا أن تجدَ شاعرًا أو كاتبًا مُهتمّا فقط بما يُنتجه، ولا يحتملُ ما يُنتجه غيرُه، ولا يحتَمِلُ ما ينتجه الآخَرُ على الإطلاق. وتجد كاتبًا يقرؤك سرّا، وينتشل بعضَ عباراتك أو أفكارك ليُضيفها إلى رصيد كتابته، ويُلغيك بشدّة إذا ما صادف أن التقيت به في مكانٍ يتّسع لعشرين كاتبًا وما يكتبون. اهـ

قلتُ: هذا كلام صحيح، وليتَ المسألة توقّفت هنا، لكن للأسف هناك كُتّاب وأدباء وشعراء وعلماء أيضا يَحسدون غيرهم حسدًا يجعلهم يتمنّون لهم الشّر ويضمرون العداوة، ويبيحون لأنفسهم الغمز واللّمز والطّعن ورمي العمل الإبداعي بكلّ نقيصة لعلّهم ينجحون في إبعاد النّاس عن هذا الأديب أو ذاك الشّاعر أو الكاتب..

لكن كثيرًا ما تبوء محاولتهم بالفشل، وتُصاب قلوبهم المريضة بخيبة أمل..لأنّ القارئ الجادّ -حتّى ولو كان عاديا لا علاقة له بالنّقد- يتذّوق الأعمال الأدبية وتجذبه جذبًا، بمعنى أنّ النّص يفرض نفسه رغمًا عن أنوف الحسَدَة والحَقَدة والمغرضين..وهذه القضية ليست وليدة هذا العصر بل في سائر العصور، وفي شتّى فنون العلم والأدب، لذلك كان العلماء يقولون: (كلام الأقران بعضهم في بعض يُطوى ولا يروى).

وقد بلغ التّناحر بين العلاّمة السخاوي والإمام السيوطي كما لا يخفى على المطّلعين مبلغًا قد لا يبلغه أهل الجهل وأحلاس المقاهي لذلك قال الشّوكاني في كتابه البدر الطّالع ص 741 في ترجمة السّخاوي: وليتَ أنّ صاحبَ التّرجمة صان ذلك الكتاب الفائق (الضّوء اللاّمع) عن الوقيعة في أكابر العلماء من أقرانِه.

وكذلك في عصرنا معركة العقّاد مع الرّافعي لا أظنّها تخفى عليكم..( راجع مقالتي عن ذلك في كتابي تأملات كاتب).

أمّا بقية كلام تاج السّر: وتجد كاتبًا يقرؤك سرّا، وينتشل بعضَ عباراتك أو أفكارك ليُضيفها إلى رصيد كتابته، ويُلغيك بشدّة إذا ما صادف أن التقيت به في مكانٍ يتّسع لعشرين كاتبًا وما يكتبون.

فهذا النّوع كثير جدّا في واقعنا -لا كثّرهم الله- وأضرب لذلك مثالا واحدًا لكيلا أطيل، الأستاذ سليم الهلالي  في الأردن، اكتشفه بعض الباحثين ينقل الكلام الطويل من تفسير الشّهيد -بإذن الله- سيد قطب وينسبه لنفسه، ثمّ من غريب هذا الرّجل أنّ عداوته وتحذيره من سيد قطب وكتبه تجعل المرء يعجب من تصرفاته وتناقضه، وقد ألّف هذا الباحث واسمه (أحمد الكويتي) كتابًا عنوانه (الكشف المثالي عن سرقات سليم الهلالي)..

*****

* مرّ عليّ أحدُ جيراننا فرآني دافنًا وجهي في كتاب، فقال: الأمريكي يقرأ ثلاثة عشر كتابًا في السّنة. فقلت له بسخرية لاذعة وافتخار مقصود: لم يفعل شيئًا فأنا أقرأ قرابة مائة كتابٍ، ففغر فاه من الدّهشة ولم ينبس ببنت شفة وانصرف مصدومًا يبتلع ما تبقى من سيجارته الرّخيصة.

ليته استدّل لي بجدّ ابن تيمية الذي كان يقرأ حتّى في الحمام كما ذكر ذلك ابن القيّم قائلا في كتابه روضة المحبين: وحدّثني أخو شيخنا (يعني أحمد ابن تيمية) عبد الرحمن ابن تيمية، عن أبيه (عبد الحليم) قال: كان الجدّ أبو البركات إذا دخل الخلاء يقول لي: اقرأ في هذا الكتاب وارفعْ صوتَك حتّى أسمع..

أو ليته استدلّ بابن الجوزي الذي أخبر عن نفسه في (صيد الخاطر) أنه قرأ عشرين ألفَ كتاب إبّان طلبه للعلم، أو بالعقّاد الذي قال عن نفسه أنه قرأ ستين ألف كتاب كما نقل ذلك عنه أنيس منصور في كتابه (في صالون العقاد كانت لنا أيام)، أو بشيخ الأدباء علي الطنطاوي الذي أخبر في (فصوله) أنه قرأ كتاب الأغاني (25 مجلدا) في عطلتين صيفيتين أيام الثانوية..أو العلاّمة محمود شاكر الذي أعاد قراءة الشعر العربي كله أو ما وقع تحت يديه وهو في عنفوان الشباب كما في مقدمة كتابه (المتنبي)، أو المُحدِّث الألباني الذي قرأ ركاما من المجلدات للبحث عن ورقة ضائعة… أو سيد قطب الذي قال للأستاذ الأديب وديع فلسطين: إنّه يُقتر على نفسه في معيشته كي يستطيع شراء ما يحتاج إليه من كتب، ولو كان عليه أن يختار بين شراء جورب عوضًا عن جوربه المثقوب وبين شراء كتاب، لفضّل شراء الكتاب. كما في كتابه الرائع (وديع فلسطين يتحدّثُ عن أعلام عصره ج 1 ص 284).

وغير ذلك كثير من عباقرة وأدباء وعلماء هذه الأمة

…فمتى تتخلّصون من هذه التّبعية المرذولة يا أمّة ضحكت من جهلها الأممُ.

وجارنا هذا من النّوع الذي قال عنه الأديب أحمد حسن الزّيات في كتابه [ وحي الرّسالة ج 1 ص 336 ] في مقالة له بعنوان ( لوكنّا نقرأ ):

الحَقُّ أنّنا أمّة أمية تنظرُ إلى الكِتاب نظر المُتعظّم الخائف، أو المتقنّع العازف. ما دمنا لا نرى الكتابَ ضرورةً للرّوح، كما نرى الرّغيفَ ضرورة للبدن، فنحن مع الخليقة الدّنيا على هامش العيش أو على سطح الوجود…

نحن لا ننكر أنّهم يقرأون كثيرًا، وبسبب قراءتهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه، لكن أن نجعلهم القدوة والأسوة في القراءة ونتناسى أسلافَنا وأجدادَنا وعلماءَنا وأدباءَنا ومفكّرينا قديما وحديثًا، فهذه وربّي قاصمة الظّهر.

وبدلَ أن ننافسهم ونزاحمهم فيما هم عليه من تقدّم بسب كثرة القراءة، نجلس نباهي  ونفتخر بهم في المجالس متّكئين على الآرائك، والوسائد.. آرائك الكسل ووسائد الخمول. وأغلبنا لا يوجد عنده عشرة كتب في بيته، بل أعرف من لا يوجد عنده كتاب الله..وكما قلت قبل أيّام على صفحتي في (تويتر): زرتُ صديقًا من قبيلتنا، فوجدت عنده كلّ شيء إلاّ الكتبَ.

سيد قطب -طيّب الله ثراه- في مقدّمة كتابه معالم في الطّريق يقول: تقفُ البشريةُ اليومَ على حافة الهاوية..لا بسبب التّهديد بالفناء المعلّق على رأسها..فهذا عَرَض للمرض وليسَ هو المرض..ولكن بسبب إفلاسها في عالم (القِيَم) التي يمكن أن تنموَ الحياة الإنسانية في ظِلالِها نموا سليمًا وتترقّى ترقّيا صحيحا.

وهذا واضح كلّ الوضوح في العالم الغربي. الذي لم يعد لديه ما يعطيه للبشرية من القيم، بل الذي لم يعد لديه ما يُقنع ضميره باستحقاقه للوجود، بعدما انتهت الدّيمقراطية فيه إلى ما يشبه الإفلاس، حيثُ بدأت تستعير-ببطء-، وتقتبس من أنظمة المعسكر الشّرقيّ وبخاصة في الأنظمة الاقتصادية، تحت اسم الاشتراكية.

قال ربيع: إذًا ما قيمة هذه القراءة المتراكمة، والكثيرة عند الغرب إذا كانوا يفتقرون إلى القيم والأخلاق؟

وحتّى الكُتّاب والأدباء الذين يضربون الأمثلة بالغرب  كتبهم التي تحرّض على القراءة في عصرنا الحاضر، لا يضربونها انبهارا، بل تحفيزًا وتشجيعًا، وإيقاظًا للهِمم، لأنّ هناك من النّاس من لا يقتنع إلا بما لدى الغرب من منجزات..

ومن لطيف ما وقع لي شخصيًا وسجّلته في كتابي (الأفكار):

قبلَ أشهر كنتُ أتمشّى في بعض أزقة مدينتي أملأ رئتيَّ بهواء ربيعيّ نقيٍّ، ومن أجل إزاحة بعض الملل الذي يتملّكني بين الفينة والأخرى وأنا قابع بين أربعة جدران! وبينا أنا كذلك إذ رأيتُ امرأةً من بعيد جالسةً أمامَ أحد المنازل تقتعدُ كرسيّا خشبيا، وتحمل بين يديها كتابًا متوسطَ الحجم تقرأ فيه بتركيز عجيب!

انطلقت أساريرُ وجهي لهذا المنظر الرّائع وتبسّمت بارتياح إذ أصبح من النّادر جدًّا أن تجدَ من يقرأ أو يهتمَّ بمطالعة الكُتب في وقتنا الحاضر!.. وقفت للحظات أسترقُ النّظرَ إلى هذا المنظر العجيب الجميل! محاولاً بفضول طفولي معرفة عنوان كتابها، وبعد هنيهة أخرجني أحدُهم من لذّتي حين أخرج رأسه من باب المنزل ليناديها باسم أعجمي، تأكّدتُ من خلاله أنّ المرأة ليست عربية بل هي من بلاد الغرب، مع أنّ شكلها كان عاديًا كَنِسَاِئنا تمامًا إذ ليست بشقراء ولا صفراء!..

أكملتُ تجوالي أضربُ بين الأزقة على غير هدًى بعدما أرجعت ابتسامتي إلى مخدعها ورأسي يعجّ بكثير من الخواطر والهواجس والتّساؤلات!

إنّنا أمّة الشّاعر الذي قال (وخير جليس في الزّمان كتاب) والشّاعر الذي قال: (أنا من بدّل بالصّحب الكتابا) بل نحن أمّة الكتاب الخالد الذي أمر بالقراءة قبل أن يأمرَ بأيّ شيء آخر.

(اقرأ)..فما بالكم تتركون البحر وتلوذون بالسّواقي يا أمّة (ن والقلم وما يسطرون).

يقول الأستاذ عبد الكريم الخطيب في تفسيره (التّفسير القرآني للقرآن ج 16 ص1624) عند قوله تعالى (اقرأ): وفي هذا تنويه بشأن القراءة، وأنّها السّبيل إلى المعرفة والعِلم.

ثمّ إنّ الأمية، وإن كانت حائلة بين المرء وبين أن يقرأ في كتاب، فإنّها لا تحول بينه وبين العلم والمعرفة، فهناك كتاب الوجود الذي يقرأ الإنسانُ آياتِه بالنّظر المتأمّل فيه، والبصيرة النافذة إلى أسراره، وعجائبه..ثمّ هناك التّلقي عن أهل العلم، ممن يقرأون ويدرسون.. فليكن الإنسان قارئًا أبدًا، على أيّ حالٍ من أحواله، قارئًا بنفسه، أو قارئًا متابعًا لغيره.

والمقصود بهذا النّقل أنّ الإنسان بلا قراءة سواء في كتاب من الكتب، أو في كتاب الكون المفتوح لا يكون إلاّ كدابة لا تعرف ولا تدرك المغزى من وجودها في هذا العالم..

(فإنّك كلّما قرأت فُتحت أمامك آفاق واسعة من المعرفة، والتجارب، والدراية، فكل سطر له معنى، وكل كلمة لها رمز، وما عليك إلا أن تكون قارئا ذكيّا يوظف المعلومة، ويجيد تخزين المعرفة في ذاكرة اكتسبت الوعي من المِرَان، وحفظت الفوائد بالمراس، افتح كتابًا نافعا وكأنّك فتحت مدينة، وطالع ديوانا مفيدا وكأنّك طالعتَ قارّة، إنما المهم أن تقرأ، وأوصيك دائما أن تقرأ، ولو قبلت نصيحتي لقلت لك: اقرأ !).

وأعتذر على هذا الاسترسال فالحديثُ ذو شجون كما يُقال..

https://www.facebook.com/rabia.essamlali

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *