فتور وانتكاس بعد موسم الطاعات والقربات.. ما السّر في ذلك؟! محمد أبوالفتح

يعاني المسلمون جميعا إلا من رحم ربُّك بعد رمضان من فتور وانكسار هممهم عن فعل الخيرات، فأهل الطاعة منهم لا يجدون من أنفسهم ذلك الإقبال على القُربات الذي كانوا يجدونه في رمضان، وأهل المعاصي كثيرٌ منهم رجعوا إلى ما كانوا عليه قبل رمضان من التفريط في الصلوات، والانغماس في الشهوات، فبيوت الله تشتكي من قلة المصلين بعدما غصت بهم جنباتها، وكأني بالدموع تسيل على جدرانها، حزنا على فراق جموع المسلمين، ولسان حالها يقول: “سامحكم الله لماذا هجرتموني؟ وأي شيء اقترفته في حقكم حتى تفارقوني؟ وهل وجدتم في رحابي من الله غير الرحمة والمغفرة والرضوان؟ فبالله عليكم أخبروني لماذا هذا الجفاء؟”، لست أدري ماذا سيكون جوابهم، ولو كنت أعلم لهم جوابا مقنعا لأجبت عنهم. فما هي أسباب هذا الجفاء؟ وما هي أسباب الثبات على الاستقامة؟
شؤم المعصية
إن من أعظم أسباب الفتور عن الطاعة، والشعور بثقلها على النفس اقتراف المعاصي والاستهانة بها، ومما يدل على ذلك:
قوله تعالى: “وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ” المطففين، قال ابن كثير: “أي ليس الأمر كما زعموا، ولا كما قالوا إن هذا القرآن أساطير الأولين؛ بل هو كلام الله ووحيه وتنـزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرَّين الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا”. فالمعاصي حُجُبٌ تحول بين الكافر وبين أصل الإيمان، وتحول بين المسلم وبين كمال الإيمان، الذي هو أصل كل الطاعات والقربات، فإذا جثمت على قلب العبد ثقلت عليه كل طاعة، وخفت عليه كل معصية، وكل سيئة تَجُرُّ إلى مثلها أو أَسْوَءَ منها، كما أن الحسنة تجر إلى مثلها أو أحسن منها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “اعلم أن الله تعالى خلق فِعْلَ العَبْدِ سببا مقتضيا لآثار محمودة أو مذمومة، والعمل الصالح مثلُ صلاةٍ أقبل عليها بقلبه ووجهه، وأخلص فيها وراقب وفَقِهَ ما بُنيت عليه من الكلمات الطيبات والأعمال الصالحات، يعقبه في عاجل الأمر نور في قلبه، وانشراح في صدره، وطمأنينة في نفسه، ومزيد في علمه، وتثبيت في يقينه، وقوة في عقله، إلى غير ذلك من قوة بدنه، وبهاء وجهه، وانتهائه عن الفحشاء والمنكر، وإلقاء المحبة له في قلوب الخلق، ودفع البلاء عنه، وغير ذلك مما يعلمه و لا نعلمه. ثم هذه الآثار التي حصلت له من النور والعلم واليقين وغير ذلك، أسباب مُفْضية إلى آثار أخر من جنسها ومن غير جنسها أرفعُ منها، وهَلُمَّ جرا؛ ولهذا قيل: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وكذلك العمل السيئ، مثل الكذب مثلا يعاقب صاحبه في الحال بظلمة في القلب، وقسوة وضيق في صدره، ونفاق، واضطراب، ونسيان ما تعلمه، وانسداد باب علم كان يطلبه، ونقص في يقينه وعقله، واسوداد وجهه، وبغضه في قلوب الخلق، واجترائه على ذنب آخر من جنسه أو غير جنسه، وهلم جرا، إلا أن يتداركه الله برحمته” (مجموع الفتاوى 8/396)، وأزيد على قول شيخ الإسلام: “وانسداد باب علم كان يطلبه”، فأقول: “وانسداد باب عمل كان يعمله”، فالعبد لا يُوفق للعمل الصالح إلا إذا أُذن له فيه من رب العالمين، كما قال تعالى: “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ” يونس، وفي دعاء الاستيقاظ من النوم: “الحمد لله الذي ردَّ عليَّ روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره” (صحيح الجامع 329)، فالتوفيق للعمل الصالح من أعظم نعم الله تعالى التي تستدعي شكره، فإذا لم تُشكر وقوبلت بالعصيان، كانت عرضة للذهاب تماما كغيرها من النعم.
احذر من الاستخفاف بالمعصية
وأول خطوة يخطوها العبد نحو المعصية هي تحقيرها والاستخفاف بها، فإنه إذا احتقر المعصية في قلبه، هان عليه اقترافها، وخف عليه اجتراحها، وكان منها قاب قوسين أو أدنى، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “..فاستقلال العبد لمعصيته عين الجرأة على الله، وجهل بقدر من عصاه، وبقدر حقِّه، وإنما كان مبارزة؛ لأنه إذا استصغر المعصية واستقلها هان عليه أمرها وخفت على قلبه، وذلك نوع مبارزة” (مدارج السالكين1/265).
وقد تكون هذه الذنوب المحقرة عند العبد من العظائم عند الله، كما قال تعالى في شأن الإفك: “وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ” النور، وقال أنس بن مالك: “إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات (أي: المهلكات)” (صحيح البخاري 6127)، فإن لم تكن هذه الذنوب من الكبائر في نفسها فإنها مع الإصرار تصير كذلك، كما ورد عن ابن عباس: “لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار” (تفسير ابن جرير4/39)، وقال بعضهم في أبيات:
صَغِيرَةٌ تَكْبُرُ بِالاِصْرِارِ *** وَفَرَحٍ بِهَا وَالاِسْتِصْغَارِ
وَفِعْلِهَا بِلاَ حَياً جِهَارًا *** وَبِالتَّحَدُّثِ بِهَا افْتِخَاراً
فإن الإصرار على الذنب مهما كان صغيرا يعني اجتراء العبد على ربه، لذلك كان بعض السلف يقول: “لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت”، وعن كعب الأحبار أنه قال: إن العبد ليذنب الذنب الصغير، فيحقره ولا يندم عليه ولا يستغفر منه، فيعظم عند الله حتى يكون مثل الطود. ويعمل الذنب العظيم فيندم عليه ويستغفر منه، فيصغر عند الله عز وجل حتى يغفر له” (شعب الإيمان 7151)، وعن الفضيل بن عياض أنه قال: “بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله” (شعب الإيمان 7152).
ثم إن هذه الذنوب التي يستكثر منها العبد مهما كانت صغيرة فإنها إذا اجتمعت عليه وأحاطت به أهلكته كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إياكم ومُحَقَّرَات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بَطن واد، فجاء ذا بعُود، وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه” (صحيح الجامع 2686).
وبالجملة فإن العبد لا ينبغي له أن يحقر ذنبا كيفما كان، فإنه لا يدري لعله يكون عند الله كبيرا، فإن لم يكن عنده كبيرا فلعله يكبر بسبب الإصرار عليه أو استحقاره أو المجاهرة به، فإن لم يكبر فلعله يجتمع مع غيره من الصغائر فيؤاخذ بها صاحبها فتهلكه. وما أروع ما قال الإمام ابن القيم حين قال ناصحا المتهاون بمعصية الله: “يا مغرورا بالأماني لُعن إبليس وأُهبط من منـزل العزّ بترك سجدة واحدة أُمر بها، وأُخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها، وحجب القاتل عنها بعد أن رآها عيانا بملء كف من دم، وأَمَرَ بقتل الزاني أشنع القِتلات بإيلاج قدر الأنملة فيما لا يحل، وأمر بإيساع الظهر سياطا بكلمة قذف، أو بقطرة سكر، وأبان عضوا من أعضائك بثلاثة دراهم، فلا تأمنه ان يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيه، ولا يخاف عقباها” الفوائد1/63.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *