يومياتُ مُثقف مقهور (ج3) ربيع السملالي

لا علاقة
– زرتُ مكتبة جديدة بمدينتنا تكثر فيها الأضواء وكتب الطّبخ وتفسير الأحلام وتكبير الأرداف ودع القلق وابدأ الحياة، فرأتني صاحبة المكتبة، وهي سيّدة في الأربعين تلبس لباسًا شبه محتشم، يتقّدمها صدر كبير، ولها عينان مفتوحتان مثل نافذة تطلّ على سماء مليئة بالضّباب.. رأتني بلباسي البالي، وحذائي المُقشّر متأبّطًا جريدة تاريخها يعودُ للتّسعينيات من القرن الماضي، وجدتها عند بائع زريعة متجوّل فاشتريتها منه بدرهم من أجل موضوع فيها يتحدّثُ عن غلاء الأسعار في مدينة وادي زم.. فقالت لي بصوت يشبه أصوات الإناث اللواتي تجاوزن سنّ اليأس، هل من خدمة سيّدي الفاضل، فرمقتها بعينين تائهتين، ثمّ قلت هل عندكم رواية مائة (عام من العزلة)، وكتاب (زوربا) اليوناني لنيكولا كزانتزاكيس؟ وكتاب (لنتكلّم لغتي) لعبد الفتاح كيليطو، فحدجتني بعينيها المثقلتين بالكحل الإفريقي وكأنّني سألتها عن الزّائدة الدّودية، ثمّ فتحت فمها الذي يبدو كمغارة في جبل ضائع في مدينة مهجورة، لا يوجد عندنا هذا النّوع من الكتب.. اسأل عنها في حوانيت الورّاقين.. أصحاب الكتب المستعملة التي توجد بقرب بائعي الوجبات السّريعة في الطّريق المؤدّية إلى محطّة الحافلات.. فشكرتها بلطف ورشقتها بابتسامة وديعة.. لم ترقها، فأشاحت عنّي بوجهها المختبئ وراء جحافل الأصباغ والمساحيق الدّسمة الرّخيصة التي كادت تجعل منها قِردة أرستقراطية..
أفكاري
ذهبتُ أصيلَ أمسِ في جولةٍ مسائية لأشمّ هواءً نقيّا بعيدًا عن رائحة السّمك التي تستبدّ بالمنزل منذ وقت الغداء، فوجدت في طريقي بائعا متجوّلا عنده عربة يد قصيرة يبيع فيها الفول والحمصّ، ففُتحت شهيتي، وبحثت في جيوبي هل أجد ما أسدّ به الرّمق، فعثرت على درهمين نائمين بهدوء في جيب خلفيّ خامل.. أعطيتها للرّجل ذي السّحنة الكالحة والوجه الحليق اليابس والعينين الغائرتين فإذا به يُخرجُ كتابي (أفكار على ضفاف الانكسار) ويمزّق منه ورقة ليَلُفّ فيها فولا وحمّصا.. ففوجئت وفغرت فَمِي مندهشا، ثمّ قلت: من أعطاك هذا الكتاب ويحَك؟ فقال: اشتريت كتبا كعادتي من سوق الكتب المتراكمة الرّخيصة فوجدته فيها، لكن قل لي: أين المشكلة.. ولماذا تسأل؟.. فقلت له: لا شيء انسَ.. سلام عليكم.. ففتحت الورقة وإذا بخاطرة كئيبة من خواطري قرأت في مطلعها:
(بعض أصدقائي يرون السّعادة في ركوب سيارة فاخرة، وملابسَ أمريكية جيّدة الصّنع، وهواتف ذكية، وساعات سويسرية ثمينة، وعطور باريسية تملأ بأريجها الفوّاح سموات دنياهم وقلوبهم، وما إلى ذلك من الماديات التي أعمت القلوب قبل الأرواح.. أمّا أنا القابع في شرنقة أيّامه السّاخرة من بني الإنسان فلا أشتهي إلاّ عُزلة طويلةَ الأمد تحول بيني وبين النّاس أخلو فيها بكتبي وأقلامي وأوراقي.. أشعر فيها بجدّية ابن تيمية، وشجاعة ابن حزم، وجدال ابن رشد للغزّالي، وعبقرية العقّاد، وفصاحة الرّافعي، وغيرة أبي فهر محمود شاكر، وتصحيحات الألباني، وجمالية الدّين عند فريد الأنصاري، وفوائد عبد الفتاح كيليطو، واعترافات جان جاك روسو، وإنسانيات غيوم ميسو، وبكاء فيكتور هوجو على البائسين من أمثالي… قد تستغربون ولكنّها الحقيقة فإنّني صرت وحشيَّ الغريزة كما ذكر أبو العلاء عن نفسه في زمن ما!)..
في الحمّام
كان الجوّ غائمًا، وسحب داكنة تحجب شمس نيسان الدّافئة، ونفسيتي سيئة، في ذلك اليوم المنبثق من شرنقة العدم، فحدّثتُ نفسي بالذّهاب إلى الحمّام لإزالة أوساخي وأفكار ي وهواجسي التي تجمّعت عليّ طيلة الشّهر، وبعدما نزعت ملابسي وتمدّدت في الغرفة السّاخنة، أدلّك جسدي الضّامر بالصّابون البلدي لمحتُ شابّا طويل القامة خشن الملامح، قويّ البنية، ينظرُ إليّ بإعجاب، فظننتُ به سوءًا، فانكفأت على نفسي وتقوقعتُ داخل كيس العظام الذي يحتويني، وبدأت أسرع في إزالة الصّابون لأنتقل إلى الغرفة الأقل سخونة، وبعدما فعلتُ تبعني وألقى عليّ سلاما حارًا ثمّ سألني: هل أنت الأديب فلان الفلاني؟ فقلت مبتسما: أي نعم. فقال: أنا من أشدّ المعجبين بمقالاتك في جريدة السّبيل.. فقلت له: العفو أخي بوركتم، ثمّ طلب إليّ أن يقوم بتدليك الأماكن التي لا تصل إليها يدي وِخرقتي الخَشِنة، فوافقت فكسّلني تكسيلة عظيمة، سقطت من خلالها أوساخي الكثيرة، وخشيت أن أكون قد سقطتُ من عينه أيضا بسبب ذلك…
جنون الكتب
اتّصلَ بي كُتبيّ مرّة ليخبرني أنّه قد اشترى مكتبة منزلية من امرأة، وأنّه يريدني أن أرى عناوينها لعلّي أظفر بكتب نادرة لا توجد في خزانتي، فانطلقتُ إليه كالسّهم وعلى ملامحي ترتسم سعادة جميلة كجمال الغروب في مدينة سلا.. فوجدت ركاما من الكتب القديمة، واخترتُ منها ما أحتاجه، ومن حسن حظّي أن مالاً كنت أحتفظ به لطبع كتابي الثّاني أسعفني في تلك اللّحظة لشراء كل ذلك الرّكام.. ثمّ سألته ما بالُ هذه المرأة هل مات زوجها الفقيه رحمه الله.. قال: وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة: بل انفصلا، وانتقمت منه بأخذ المكتبة بالقوة، قوّة السّلطة.. وبيعها، لأنّه لا يملك مالا يستطيع به طلاق هذه الأعرابية الضّالة التي لا تعرف قيمة للكتب، فضحكت بأسف وحقدت على النّساء بسببها، وبينا نحن في حوارنا هذا إذ جاء أستاذ كان صديقًا لي في زمن ما، فقال باستهانة وخِسّة للكتبي: لن يشتري ربيع شيئًا مَهْمَا جمع من كتب، ففي الأخير يتخلّى عنها وينصرفُ، فرميته بنظرة كاد يستحيل معها إلى رماد، ثمّ بعد ذلك جاءني بكتاب تاريخ المسعودي المسمّى (مروج الذّهب)، وهو يعلم خبرتي في هذا المجال، فسألني هل هذه الطّبعة جيّدة تنصحني بها أخي ربيع، فقلّبتها، بيدي وأعجبتني وهي ليست عندي، فأضمرت سوءًا، انتقامًا منه، وقلت له: بل هي طبعة تجارية لا قيمة لها، وغير محقّقة وقد تكون مبتورة، فأرجَعها إلى مكانها كما لو كانت رجسًا، فذهبت إلى الكتبي وهمست في أذنه: الكتاب الذي وضعه فلان في ذلك المكان كم ثمنه، قال: أتقصد مروج الذّهب؟ قلت: أي نعم.. قال كيت وكيت، قلت له اجعله في (الكارتونة) مع الكتب الأخرى التي جمعت، دون أن يشعر وحدّد لي الثّمن.. ثمنَ الكتب جميعها في غير إسراف أو شطط.. ففعل ما أمرته به بانشراح إذ إنه يكره هذا الأستاذ المُتحذلق الزُّعرور.. أخذت الكتب وذهبت إلى حال سبيلي منتشيًا، ولساني يردد عبارات الشّماتة بالأستاذ التّافه، وكلمات الاحتقار بالمرأة الجاهلة التي لم ترعَ وداد السّنين التي قضت تحت جناح هذا الرّجل الذي خانته في أعزّ ما يمكله.. وهي الكتب..
مُجتمعنا
استيقظت اليوم من نومي فزعًا على صراخٍ مهول انبثق من حنجرة فتاة في مقتبل العمر كانت تحمل هاتفًا ذكيًا في حجم نَعْلِي! تعبثُ به وتدردش وسط الشارع كعادة بنات جنسها أو بعضهن هذه الأيام، فاهتبلَ أحد اللصوص غفلَتها وانتزعه منها ثم فرّ هاربًا بدرّاجته النارية وعويلُها وبكاؤها يشيّعانه كنظرات بعض السابلة الذين وقفوا يتفرّجون على هذا المشهد السينمائي المباشر…في أول فزعي اعتقدتها جارةً من الجيران أصابتها مصيبة من المصائب أو كارثة من الكوارث فلم تستطع منع نفسها ولا لسانها من الصّراخ الذي ملأ الحي وأيقظّ النيام، دفعني الفضول لاستكشاف الأمر، فرأيت من نافذة غرفتي هذه الفتاة المسكينة لا تستر من جسدها إلا العورة المغلّظة، تجري بسرعة لعلّها تلحق بالمجرم الأثيم الذي أخذ منها الهاتف بصورهِ ودردشاته وكل طوامه ومنافعه، فكانت كامرأةٍ تناهى إليها خبر مصرع فلذة كبدها وهي في مطبخها فخرجت بلباسها المنزلي سافرة بلا شعورٍ منها… أقفلت النافذة بعدما بصقتُ على العالم، وعدتُ إلى فراشي لأستوفيَ حظّي من النوم لكن والدتي لم تمهلني ونادتني بأعلى صوتٍ: قُم يا ربيع لنحوّل الكبشَ من مكانه (في السّطح) فقد أسرعت إليه حرارة الشمس فأرهقته..! كان ذلك قبل عيد الأضحى بيومين..
فتنة (واي فاي)
باغتتني فكرة صباح هذا اليوم البارد وسط الشّارع فانتحيتُ جانبًا لأكتبها قبل أن تفرّ منّي، فاقتعدتُ عتبةَ أحد المنازل المقفلة قرب مقهى، فخرجت من باب المنزل امرأة أربعينية يابسة البنية عيناها غائرتان عليها جلباب اختلطت فيه الألوان في غير نظام! فقلت لها بأدب: المعذرة يا سيدتي! فقالت بفم مملوء بالطّعام: لابأس فقد اعتدنا على ذلك، فكل يوم نجد الشباب جالسين من أجل ( واي فاي) المقهى!!.. فقمت منزعجًا إذ شعرت بكرامتي قد أهينتْ وقلت: لا لا يا سيدتي لم أجلس لأجل ذلك والله! فهاتفي بحمد الله لا يخلو أبدا من ( الأنترنت )!.. ثمّ انصرفت إلى حال سبيلي متعثرا في خجلي وكأنّني أتيت شيئا نُكرًا..
مع الكتب مرّة أخرى
كنت عائدًا من عند أستاذنا الأديب محمد بن إدريس بلبصير قبل أسابيع، فمررت بمكتبة صغيرة صاحبتها في الخمسين من عمرها على أكثر تقدير، لها ملامح مقبولة تشي بجمال غابر، تلبس حجابًا مغربيا أنيقا في غير إسراف، سألتها عن كتاب لم تعرفه ولم تسمع به من قبل!.. فلمحت من بعيد بعض المجلدات القديمة مصفوفة في ركن قصي من المكتبة فطلبت إليها أن تمدّني بالجزء الأوّل منها، ففعلت بامتنان.. فإذا بي أجده كتابًا لطالما حدّثت نفسي باقتنائه، وهو كتاب (معجم المُؤلِّفين) للأستاذ الكبير رضا كحالة!.. لكن ثمنه ليس في متناولي.. فشعرت بسعادة طفولية أخفيتها بقدرة قادر عن المرأة الواقفة أمامي بقدّها الميّاس وعينيها اللاّصقتين في ملامحي! ثمّ سألتها بمكر وكأنّني لا أريده ولا أحتاجه ولا قيمة له عندي: كم ثمنه؟!.. فقالت بابتسامة أشعرتني بلذة الظّفر، وجعلتني أحسّ أن هذه السيدة تريد التّخلص من هذه الأسفار كما لو كانت شيئا من عمل الشيطان: ثلاثون درهمًا لكلّ جزء.. وهو في مجموعه سبعة أجزاء كبيرة…قاومتُ فرحتي كصبي عثر على وجه أمّه بعدما ضاعت منه في الزّحام!.. ثم سألتها أن تخفّض من ثمنه فهو كثير جدا بالنسبة إليّ! وبما أنّها رأتني في سروال جينز وقميص أسود منتعلا حذاءً رياضيا وعلى كتفي حقيبة حاسوبي اعتقدتني طالبا في الجامعة فقالت: هل تَدرس في جامعة القاضي عياض؟! فقلت لها لا!.. بل في جامعة أخرى في الرباط!.. قالت آه خمنت ذلك وتريد هذه المجلدات للبحث؟! قلت: أي نعم! قالت: كان الله في عونك يا ولدي! سأخفض لك الثمن لخمسة وعشرين درهم! قلت: بل اجعليها عشرين ولك الأجر. قالت: لا بأس قد فعلت! ثم ذهبتْ تدفع الغبارَ عنها وتضعها في أكياس تشبه أكياس القُمامة!.. نَقدتُها مالها.. ثم انصرفت بانتشاء عجيب وفي طريقي كافأتُ نفسي الماكرة بعصير برتقال وجلسةٍ تحت شجرة في مقهى لا يجلس فيه إلاّ المترفون وأهلُ اليسار..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *