الاستغراب في الرواية المغربية المعاصرة -الحلقة الثالثة- د. عبد الله الشارف كلية أصول الدين/ كلية الآداب تطوان

..النقد الروائي في المغرب دار ويدور في فلك الاستغراب، والنقاد المغاربة ما فتئوا يقلدون أساتذتهم الغربيين ويطبقون مناهجهم، حتى ولو أدى ذلك إلى “إلحاق الضرر” بالإنتاج الأدبي.

النص الروائي مرتهن حتما بالبنية الفكرية للجماعة، وإن بدا أنه من صنع كاتبه، لأن كاتبه لا يستقل بوعيه ولا بفنه، ولا بشيء ذاتي -مهما يكن حظه من الوجود- عن تلك البنية الجماعية. وتلج به الغلواء في مضايق هذا المنهج، فيصبح ناقدا دوغمائيا يتعاطف مع كل عمل روائي يرفض التصالح مع الواقع، ويدين كل عمل روائي متفائل، لأن التفاؤل ليس سوى عاطفة لا مبرر لها من منظور جدلية الصراع الطبقي.
وقد كان موقفنا من هذا النظرية سواء في حد ذاتها أو من خلال تطبيقها.. أنها تؤول العمل الفني بدل أن تحلله، فهي تجافي روح المعرفة الموضوعية وأنها حين تطبيقها تتجاهل أمرين: أولهما: الحدود القائمة فعلا بين الذاتي والموضوعي، بين المبدع وبين مجتمعه، بين وعيه الذاتي ووعيه الموضوعي باعتبارهما متداخلين لا منفصلين، بحيث يجب أن نعتبر أن تخلي الروائي عن وعيه الذاتي في سبيل تبني وعي جماعي، مرحلة من التطور يصل إليها عبر التحامه بطبقة اجتماعية ما، وليس قدرا مقدورا له في جميع الأحوال.
فالمبدع ينتقل من وعي مغاير عبر تجربته الذاتية، والتحامه بقضايا مجتمعه أو طبقته، وقد يظل متوقعا في ذاته، وقد يمزج بين الموقفين. وهكذا يبدو أن ذاتية الروائي تتجاوز نفسها لتنماث في المجتمع، وهو شبيه بمركب كيميائي تتغير فيه العناصر الذاتية فتصبح شيئا آخر، ليست هي الذات وليست هي الموضوع، في حين يمضي المنهج المطبق إلى تأكيد صيرورة الذاتي موضوعيا، بشكل حتمي أو آلي، وحينئذ لا نعرف أين نضع إبداعات روائية كثيرة تشذ عن هذه القاعدة.
لقد أصاب الناقد الدكتور محمد الكتاني في قوله: “غير أنه يتحمس له -أي لمنهجه- بالقدر الذي تتلاشى أمام عينيه كل سلبياته… إلى حد أنه يعتبر الروائي المبدع مجرد واضع للصياغة الفنية المناصبة للوعي الجماعي… فالنص الروائي مرتهن حتما بالبنية الفكرية للجماعة… لأن كاتبه لا يستقل بوعيه، ولا فنه، ولا بشيء ذاتي عن تلك البنية الجماعية…”.
وهذا نقد موجه لحميد لحمداني وللمنهج في نفس الوقت. ولطالما وقع النقاد البنيويون في مثل هذا الخطأ الناتج عن المبالغة في الاستعمال الآلي لعناصر ومفاهيم البنيوية التكوينية. ولعل الطبيعة الذاتية للمنهج البنيوي تكون المصدر الأساسي لهذا “الانزلاق” المنهجي الذي يحصل للنقاد أثناء استعمالهم للمنهج المذكور.
“وهكذا نرى أن استعمال كلمة بنية بحسن نية لا يخلو من مخاطرة، خصوصا حين نكون إزاء علم لا يملك بعد الأدوات النظرية التي تؤهله لإدراك ذلك الموضوع على المنشود. ويكون عندئذ استخدام كلمة بنية مجرد تعالم وادعاء.
..إن ربط الإبداع الروائي وتقييده بالبنية الفكرية للجماعة وإعطاء الأولوية للعالم الاجتماعي على حساب ذاتية الروائي، كل ذلك يعبر عن مدى هيمنة المذاهب والتيارات الاجتماعية والفلسفية في الغرب على أقلام النقاد المغاربة، وهذه المذاهب تعلي من شأن المجتمع والعوامل الخارجية الاجتماعية والاقتصادية وتحط من قيمة الفرد ومبادراته الذاتية.

وأخطر ما يكون الأمر أن تستخدم هذه الكلمة حين يكون المرء بصدد وقائع مركبة ومعقدة، ولا يملك استيعابها والإحاطة بها، فيعمد إلى احتوائها في طلاسم لفظية غامضة مختلطة بالضرورة، لكي يخلص من كل ذلك إلى استنتاج مبدأ أولي قابل للطعن حتما، ألا وهو الزعم بأن لتلك الوقائع طابعا ونسقا تنظيميا، ولاشك أن المرء حين يقول عن أي واقعة أنها تمثل نظاما أو نسقا، فإنه يرفع عنها كل عرضية تاريخية، كما أنه يقضي في الوقت نفسه على كل مبادلة حرة8.
ومن ناحية أخرى فإن ربط الإبداع الروائي وتقييده بالبنية الفكرية للجماعة وإعطاء الأولوية للعالم الاجتماعي على حساب ذاتية الروائي، كل ذلك يعبر عن مدى هيمنة المذاهب والتيارات الاجتماعية والفلسفية في الغرب على أقلام النقاد المغاربة، وهذه المذاهب تعلي من شأن المجتمع والعوامل الخارجية الاجتماعية والاقتصادية وتحط من قيمة الفرد ومبادراته الذاتية.
ومن هنا فإن تحكم النسق أو البنية9 في الإبداع الأدبي والفكري من باب تحكم العامل الاقتصادي -على الطريقة الماركسية- في الإنتاج الاجتماعي والثقافي، وتحكم العامل الاجتماعي -على الطريقة الدوركايمية- في النشاط الحضاري برمته وهكذا… بل إن إميل دوركايم جعل للمجتمع عقلا خاصا ومستقلا أطلق عليه “اسم العقل الجمعي”10، هذا العقل يجعل من خواص الوقائع والعوامل الاجتماعية أنها إجبارية وإلزامية لكونها تصدر عن قوة تعلو على الأفراد وهي قوة العقل الجمعي.
ويرى دوركايم في كتابه “قواعد المنهج في علم الاجتماع”11 أن الفرد لا قيمة له، ولا معنى للتشبث بالحرية الفردية وإنما القيم كلها للمجتمع الذي يخلق الأديان والعقائد والقيم الروحية، وكلها عبث لا قيمة له، وهو في هذا يحاول إرساء قاعدة تتعارض مع الإرادة البشرية وترمي إلى القول بأن التحلل والانحلال أمر حتمي. إن دوركايم يعد واحدا من كبار الدعاة إلى إنكار شخصية الفرد…
والخلاصة أن النقد الروائي في المغرب دار ويدور في فلك الاستغراب، وأن النقاد المغاربة ما فتئوا يقلدون أساتذتهم الغربيين ويطبقون مناهجهم، حتى ولو أدى ذلك إلى “إلحاق الضرر” بالإنتاج الأدبي. يقول الدكتور حسن حنفي: “ننزع أنفسنا من بيئتنا الثقافية إما إحساسا بالعار أمامها، أو خجلا منها، أو جهلا بها، أو تقليدا للغير، أو انبهارا به، أو رغبة في اللحاق بركابه.
– نزرع أنفسنا في بيئة ثقافية أخرى، ندخل في معاركها ونحن لسنا أطرافا فيها، وبالتالي نحول أنفسنا إلى وكلاء حضاريين للغرب.هذا مثالي وهذا واقعي، هذا عقلي وذاك حسي، هذا وجودي وذاك وضعي، هذا تحليلي وذاك بنيوي، هذا ماركسي وذلك برجماتي… الخ.
– نعطي الثقافة الغربية نوعا من الإطلاق والتعميم ليس لها، وننشرها خارج حدودها، وبالتالي نحقق مآرب ثقافة المركز باعتبارها ثقافة مهيمنة وموجة للأطراف”12.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

8- هذا الكتاب في الأصل رسالة جامعية هيأها الناقد الروائي حميد لحمداني تحت إشراف د محمد الكتاني وطبعت سنة 1985.
9- عمر محمد الطالب، مذاهب الدراسات الأدبية الحديثة، ص:266.
10- انظر حسن شحاته سعفان، تاريخ الفكر الاجتماعي والمدارس الاجتماعية، ص:240 و ما بعدها وانظر أيضا:: p:388 et suite. Raynons Aron (les étapes de la pensée sociologique)
11- انظر الفصل الول والثاني من كتاب Les régles de la méthode sociologique/France 1973/Ed
12- حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب ص:77.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *