لست أدعي ما لا دليل عليه إذا قلت: إن التعليم الخصوصي اليوم يعيش حالة أكثر رداءة من التعليم العمومي؛ فالتعليمين (العمومي والخصوصي) وإن كانا على صعيد واحد من حيث المناهج والمحتويات والأهداف، فإنهما يختلفان من حيث التسيير والتأطير وهنا مكمن الخلل في التعليم الخصوصي؛ بحيث لم يعد هاجس أصحاب المؤسسات الخصوصية هو تحقيق الجودة كما يظهر من تلك الشعارات الرنانة التي لا طال ما زينوا بها أبواب مؤسساتهم، وإنما أصبح همهم الوحيد والأوحد هو مدى الرفع من قيمة الأرباح التي تجنيها تلك المؤسسات، وذلك من خلال العمل على الرفع من المداخيل وخفض قيمة المصاريف وإن كان ذلك على حساب جودة مخرجات المؤسسة.
وإلى حد هنا مازالت الأمور تبدو عادية لأنها أمور معروفة وأصبح الحديث عنها متداولا، لكن الأمر الغير المعروف والذي يندى له الجبين وينبغي أن تتصدى له كل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، هو الطريقة التي تعمد إليها هذه المؤسسات في التقليل من مصاريفها، وهي استغلال حاملي الشهادات وتشغيلهم بأجور زهيدة أو بدون أجر في كثير من الأحيان!!! نعم بدون أجر وقد يستمر التدريس بدون أجر لمدة سنة والمؤسسة تأخذ من أولياء التلاميذ رسوم التدريس دون أن تختار لهم المدرس الكفء الذي يقدم لهم الدروس في أحسن حلة، وإنما تختار لهم المدرسين الذين يفضلون إجراء تدريب بدون مقابل، فتوزع السنة بين ثلاثة أو أربعة مترشحين وهكذا.
إن العديد من المؤسسات الخصوصية تتعمد تشغيل الباحثين عن إجراء تدريب بدون مقابل أو تشغيل الإناث الأمر الذي لا يكلفهم في أحسن الأحوال أكثر من ألفي درهم في الشهر، ولست ضد تشغيل العنصر النسوي في العمل التعليمي إن كان له ما يؤهله لممارسة هذه المهمة النبيلة، ولكني ضد أن يستغل لوبيات التعليم الخصوصي هذا العنصر باعتباره الحلقة الأضعف التي تقنع بالقليل ولا تطمح إلى طلب الزيادة أو المطالبة بباقي الحقوق التي يخولها لها القانون.
والذي دفعني إلى الحديث عن استغلال العنصر النسوي في التعليم الخصوصي، هو ما لاحظته أثناء زيارتي لإحدى المؤسسات، فقد رأيت بأم عيني أن نسبة تشغيل العنصر النسوي قد تجاوزت 75 بالمائة من مجموع الأساتذة والأطر، ولما سألت أحد المشتغلين هناك أخبرني أن راتب أستاذ واحد قد يكفي المؤسسة لتشغيل أستاذتين، كما أخبرني بأن الشهادات التي يقدمها بعض الأطر العاملة بالمؤسسة لا تتعدى في أحيانا كثيرة شهادة الباكلوريا!!!
وهنا يمكن لأي منا أن يتساءل عن مدى التزام مؤسسات التعليم الخصوصي بشروط اختيار الإطار المناسب لأداء مهمة التدريس؟ ومن المسؤول عن مراقبة مدى التزام هذه المؤسسات بتلك الشروط؟ إذ كيف يعقل لمن لم يتجاوز مستواه التعليمي مستوى الباكالوريا أن يتحمل مسؤولية القسم وهو لم يتمكن بعد من المعلومات الضرورية، ولم يتلق أي تكوين بيداغوجي؟
وإذا كان التعليم الخصوصي بهذا المستوى من الرداءة فما الذي يدفع الكثير من الآباء ـمن مختلف الفئات الاجتماعيةـ اليوم إلى تسجيل أبنائهم بالمؤسسات الخصوصية؟
هناك سببان رئيسان يدفعان الآباء إلى طرق أبواب المؤسسات الخصوصية دون المؤسسات العمومية وهما:
السبب الأول: خوف الآباء على أبنائهم من الانحراف الأخلاقي؛ إذ لا يخفى على الناظر اليوم في حال المؤسسات العمومية ما تعيشه هذه الأخيرة من مظاهر الانحراف التي يضيق المقام بسرد بعض تجليتها، ولهذا فإن الآباء يفضلون أن يلج فلذات أكبادهم المؤسسات الخصوصية التي غالبا ما تتكفل بنقلهم من منازلهم إلى المؤسسة على رأس كل ساعتين، مما يجعل الأبناء في منأى عن مرافقة أصدقاء السوء والتأثر بهم، كما أن أهل الانحراف من متاجري المخدرات لا يجرؤن على المكوث أمام المؤسسات الخصوصية لترويج سمومهم، على عكس المؤسسات العمومية التي أصبحت أبوابها ملاذا آمنا لهؤلاء نظرا لبعدها عن أعين رجال الأمن، وعدم وجود الجرأة الكافية لدى البعض للتبليغ عن هؤلاء المنحرفين الذين ليسوا سوى ضحايا نظام تعلمي ومجتمعي فاسد.
السبب الثاني: فرحة الآباء بالنقط العليا التي يحصلها أبناؤهم وإن كانت لا تعبر عن مستواهم الحقيقي في غالب الأحيان هذا من جهة، ورغبة بعض الآباء في التباهي بتدريس ابنه في القطاع الخاص وعدم رسوبه في مشواره الدراسي من جهة أخرى، لأن عملية الرسوب في التعليم الخصوصي لا وجود لها خصوصا في المستويات التي لا يجتاز فيها التلميذ امتحانا جهويا أو وطنيا يتبارى فيه مع المتمدرسين بالتعليم العام، وما قد يلاحظ من رسوب في بعض الحالات القليلة فهو رسوب يحصل بعد موافقة الأب أو الولي!! بل لا تعجب إذا سمعت أحدهم يقول لقد فشلت في النجاح مرتين في الباكلوريا وعلي أن أحصل على قدر من المال يمكنني من الدراسة بالتعليم الخاص لكي أتمكن من الحصول على نقط عالية تكفيني شر نقطة الجهوي وتوفر لي بعض ما قد أحتاجه من نقط في الوطني.
حقا إنه عالم المادة كل شيء فيه يباع ويشترى حتى الضمائر أحيانا، وإلا كيف تفسر إرغام المدير للأستاذ(ة) بإعطاء المتعلمين نقطا معينة يحدد السيد المدير المستوى الأعلى والأدنى لتلك النقط؟
إن الدولة ينبغي أن تتحمل كامل مسؤوليتها في مراقبة ما يجري في فلك التعليم الخاص، إذا كانت تؤمن بأن من يدرس في التعليم الخاص هم من أبناء هذا الوطن الذين لهم الحق في تمدرس جيد يمكنهم من حصول الكفايات اللازمة لإتمام المشوار الدراسي، سواء بقي المتعلم في التعليم الخاص أم توجه إلى التعليم العمومي بمختلف أسلاكه، فقد أصبح من الملاحظ أن انتقال المتعلم من التعليم الخصوصي إلى التعليم العمومي يجعل ذلك المتعلم في قائمة المتأخرين الذين يعرفون تعثرات كبيرة على مستوى التحصيل، وهو ما يمكن أن نفسر به ضعف مخرجات التعليم الخصوصي.