غض البصر من أهم الصفات التي يتحلى بها المؤمن, فالبصر هو الباب الأكبر إلى القلب, وأعمر طرق الحواس إليه, وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته, ووجب عن جميع المحرمات, وكل يخشى الفتنة من أجله.
قال الشاعر:
كل الحوادث مبدؤها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
وكم نظرة فتكت في قلب صاحبها *** فتك السهام بلا قوس ولا وتر
وصفاته أن يصرف المسلم بصره عما حرم عليه, ولا ينظر إلا لما أبيح النظر إليه, ويدخل فيه أيضا إغماض الأبصار عن المحارم, فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرف بصره سريعا.
غض البصر من مكارم الأخلاق الواجبة
فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: “اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم, وأوفوا إذا وعدتم, وأدُّوا إذا إئتمنتم, واحفظوا فروجكم, وغضوا أبصاركم, وكفوا أيديكم” (حديث حسن, أنظر الصحيحة).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: “سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري” (رواه مسلم).
فعليك أيها المسلم أن تغض بصرك عما حرم الله فإن “حفظ البصر أشد من حفظ اللسان” كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (الورع لابن أبي الدنيا 62).
وقال أنس رضي الله عنه: “إذا مرَّت بك امرأة فغمض عينيك حتى تجاوزك” (المصدرنفسه 66).
وأسباب غض البصر كثيرة جدا لكن أعظم سبب لذلك هو تقوى الله كما قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: “إن التقوى سبب لغض البصر وتحصين الفرج” (الفتح 11/9).
ومن أعظم الأسباب المعينة على تحقيق ذلك: الزواج عند تحقق الباءة، أو الصوم.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: قال عليه الصلاة والسلام: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر, وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء” (متفق عليه).
وفي غض البصر عما حرم الله عدة فوائد
أحدها: تخليص القلب من ألم الحسرة فإن من أطلق نظره دامت حسرته, قال أحدهم:
وكنت متى أرسلت طَرفَكَ رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
قال أحد السلف عن إرسال البصر: “أوله أسف, وآخره تلف”.
ثانيها: أنه يورث القلب نورا وإشراقا يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح، كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في الوجه والجوارح, ولهذا والله أعلم -كما قال ابن القيم رحمه الله- ذكر الله سبحانه آية النور في قوله تعالى: “اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” عقيب قوله: “قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ”.
ثالثها: أنه يورث صحة الفراسة فإنها من النور وثمراته, وإذا استنار القلب صحة الفراسة، لأنه يصير بمزلة المرآة المصقولة تظهر فيها المعلومات كما هي.
قال شجاع الكرماني رحمه الله: “من عمر ظاهره باتباع السنة, وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وأكل من الحلال، لم تخطئ فراسته”، وكان شجاع لا تخطئ له فراسة.
رابعها: أنه يفتح طرق العلم وأبوابه, ويسهل أسبابه وذلك بسبب نور القلب فإنه إذا استنار ظهر فيه حقائق المعلومات, وانكشفت له بسرعة, ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه وأظلم وانسد عليه باب العلم وطرقه.
خامسها: أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته فيجعل له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة.
سادسها: أنه يورث القلب سرورا وفرحة, وانشراحا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر.
قال بعضهم: والله للذة العفة أعظم من لذة الذنب.
سابعها: أنه يخلص القلب من أسر الشهوة, لأن الأسير هو أسير شهوته وهواه, ومتى أسرت الشهوة والهوى القلب تمكَّن منه عدوه وسامه سوء العذاب.
ثامنها: أنه يسد عنه بابا من أبواب جهنم, فإن النظر: باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل, وتحريم الرب تعالى وشرعه: حجاب مانع من الوصول إلى الله.
تاسعها: أنه يقوي عقله ويزيده ويثبته, فإن إطلاق البصر وإرساله لا يحصل إلا من خفة العقل وطيشه وعدم ملاحظته للعواقب, فإن خاصة العقل ملاحظة العواقب.
ومرسل النظر لو علم ما تجني عواقب نظره عليه لما أطلق بصره, قال الشاعر:
وأعقل الناس من لم يرتكب سببا حتى يفكر ما تجني عواقبه
عاشرها: أنه يخلص القلب من سكر الشهوة، ورقدة الغفلة، فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة، ويوقع في سكرة العشق كما قال الله تعالى عن عشاق الصور: “لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ” فالنظر كأس من خمر, والعشق هو سكر ذلك الشراب, وسكر العشق أعظم من سكر الخمر, لأن سكران الخمر يفيق, وسكران العشق قلما يفيق إلا وهو في عسكر الأموات.
قال ابن القيم رحمه الله: “ووقعت مسألة: ما تقول السادة العلماء في رجل نظر إلى امرأة نظرة فعلق حبها بقلبه واشتد عليه الأمر، فقالت له نفسه: هذا كله من أول نظرة فلو أعدت النظر إليها لرأيتها دون ما في نفسك فسلوت عنها، فهل يجوز له تعمد النظر ثانيا لهذا المعنى؟
فكان الجواب: الحمد لله، لا يجوز هذا لعشرة أوجه:
أحدها: أن الله سبحانه أمر بغض البصر ولم يجعل شفاء القلب فيما حرمه على العبد، الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن نظر الفجأة وقد علم أنه يؤثر في القلب فأمر بمداواته بصرف البصر لا بتكرار النظر، الثالث: أنه صرح بأن الأولى له وليست له الثانية، ومحال أن يكون داؤه مما له ودواؤه فيما ليس له، الرابع: أن الظاهر قوة الأمر بالنظرة الثانية لا تناقصه والتجربة شاهدة به، والظاهر أن الأمر كما رآه أول مرة فلا تحسن المخاطرة بالإعادة، الخامس: أنه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه فزاد عذابه، السادس: أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية يقوم في ركائبه فيزين له ما ليس بحسن لتتم البلية، السابع: أنه لا يعان على بليته إذا أعرض عن امتثال أوامر الشرع وتداوى بما حرمه عليه، بل هو جدير أن تتخلف عنه المعونة، الثامن: أن النظرة الأولى سهم مسموم من سهام إبليس ومعلوم أن الثانية أشد سمّا فكيف يتداوى من السم بالسم، التاسع: أن صاحب هذا المقام في مقام معاملة الحق عز وجل في ترك محبوب كما زعم وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبين حال المنظور إليه، فإن لم يكن مرضيا تركه فإذا يكون تركه لأنه لا يلائم غرضه لا لله تعالى فأين معاملة الله سبحانه بترك المحبوب لأجله، العاشر: يتبين بضرب مثل مطابق للحال وهو أنك إذا ركبت فرسا جديدا فمالت بك إلى درب ضيق لا ينفذ ولا يمكنها تستدير فيه للخروج، فإذا همت بالدخول فيه فاكبحها لئلا تدخل فإذا دخلت خطوة أو خطوتين فصح بها وردها إلى وراء عاجلا قبل أن يتمكن دخولها، فإن رددتها إلى ورائها سهل الأمر، وإن توانيت حتى ولجت وسقتها داخلا ثم قمت تجذبها بذنبها عسر عليك أو تعذر خروجها، فهل يقول عاقل إن طريق تخليصها سوقها إلى داخل.
فكذلك النظرة إذا أثرت في القلب فإن عجل الحازم وحسم المادة من أولها سهل علاجه، وإن كرر النظر ونقب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه تمكنت المحبة وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة، فلا تزال شجرة الحب تنمّى حتى يفسد القلب، ويعرض عن الفكر فيما أمر به، فيخرج بصاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن، ويلقي القلب في التلف، والسبب في هذا أن الناظر التذت عينه بأول نظرة فطلبت المعاودة كأكل الطعام اللذيذ إذا تناول منه لقمة ولو أنه غض أولا لاستراح قلبه وسلم” (روضة المحبين).