شبهة وجوابها “الإيمان في القلب”

“الإيمان في القلب”, عبارة جرت على لسان كثير من المسلمين، حتى صارت شعارا يرفعه كل متكاسل عن العمل، يواجه به الناصحين زاعما أن العبرة بصلاح الباطن دون الظاهر. والجواب على هذه الشبهة أن يقال:

أولا: هذه المقولة التي يقولها كثير من الناس عن جهل بحقيقتها إنما هي عقيدة فرقة المرجئة الضالة، والعقيدة الصحيحة التي أجمع عليها سلف الأمة هي أن “الإيمان قول وعمل”، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، وبعبارة أوضح: “الإيمان إقرار بالجنان (القلب)، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان”، وليس الإيمان مجرد ما في القلب، ومِن أصرح الأدلة على أن الإيمان يشمل أيضا قول اللسان وعمل الجوارح، قوله صلى الله عليه وسلم: “الإيمان بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان” (رواه مسلم)، فقول لا إله إلا الله من قول اللسان، وإماطة الأذى من عمل الجوارح، والحياء من عمل القلب.
ثانيا: الإيمان إذا تمكن من القلب فإنه يسري إلى اللسان والجوارح الأخرى، وبصلاح القلب يصلح الجسد وتصلح الأعمال، قال صلى الله عليه وسلم: “أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ” (متفق عليه)، قال ابن رجب رحمه الله: “فيه إشارةٌ إلى أنَّ صلاحَ حركاتِ العبدِ بجوارحه، واجتنابه للمحرَّمات واتَّقاءه للشُّبهات بحسب صلاحِ حركةِ قلبِه؛ فإنْ كان قلبُه سليماً، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يُحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركاتُ الجوارح كلّها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرَّمات كلها، وتوقي للشبهات حذراً مِنَ الوقوعِ في المحرَّمات؛ وإنْ كان القلبُ فاسداً، قدِ استولى عليه اتِّباعُ هواه، وطلب ما يحبُّه ولو كرهه الله، فسدت حركاتُ الجوارح كلها، وانبعثت إلى كلِّ المعاصي والمشتبهات بحسب اتِّباع هوى القلب؛ ولهذا يقال: القلبُ مَلِكُ الأعضاء، وبقيَّةُ الأعضاءِ جنودُه، وهم مع هذا جنودٌ طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيءٍ من ذلك، فإنْ كان الملكُ صالحاً كانت هذه الجنود صالحةً، وإنْ كان فاسداً كانت جنودُه بهذه المثابَةِ فاسدةً، ولا ينفع عند الله إلاّ القلبُ السليم” (جامع العلوم والحكم: شرح الحديث السادس).
فالذين يتركون الواجبات، ويرتكبون المحرمات، ثم يدعون صلاح قلوبهم، هم كاذبون في دعواهم، فإنه لو صلحت بواطنهم لصلحت ظواهرهم، ولو تمكن الإيمان الصادق من قلوبهم لاستقامت جوارحهم على ما يقتضيه الإيمان من صلاح القول والعمل، قال تعالى: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ” (الأنفال).
فليس هناك انفصام بين الظاهر والباطن في شخصية الإنسان السوي، بل إن الباطن قائد الظاهر، والظاهر مرآة تعكس ما في الباطن، وترجمان يترجم مكنوناته، إِنْ خيرا فخير، وإن شرا فشر، “وَكُلُّ إِنَاءٍ بِمَا فِيهِ يَنْضَحُ”، فلا يُتصور إيمان كامل في القلب ليس معه عمل صالح، ويستحيل أن تُثمر شجرة الإيمان ثمار الكفر والفسوق والعصيان، كما يستحيل أن تُثمر الشجرة الطيبة ثمار شجرة الزقوم، ولهذا قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” إبراهيم.
قال ابن القيم رحمه الله في: “إذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب، التي فروعها من الأعمال الصالحة الصاعدة إلى السماء، ولا تزال هذه الشجرة تُثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب، ومحبة القلب لها وإخلاصه فيها ومعرفته بحقيقتها، وقيامه بحقوقها ومراعاتها حق رعايتها، فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتصف قلبه بها، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها، فعرف حقيقة الإلهية التي يثبتها قلبه لله ويشهد بها لسانه وتصدقها جوارحه، ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله، وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللا، غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا، كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا، فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان، لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت، فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى، وهذه الكلمة الطيبة تُثمر كلاما كثيرا طيبا يقارنه عمل صالح، فيرفع العمل الصالح إلى الكلم الطيب، كما قال تعالى: “إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ(فاطر)”. (إعلام الموقعين 1/172).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *