«..إسدال النقاب على الوجه فضيلة، لا ينكرها إلا جاحد أو غال، فإذا علمنا أن التخفي مقصد من مقاصد التشريع في أحكام اللباس في الإسلام، علمنا أن النقاب وهو أحوط للتخفي زيادة في الخير ومنزلة في الفضل، تتقرب به الصالحات إلى الله تعالى» (د.فريد الأنصاري؛ رحمه الله تعالى).
بعد أن حاول المستعمر الفرنسي جاهدا بكل ما أوتي من قوة هدم صرح الهوية الثقافية والتاريخية والدينية للمجتمعات المغاربية المسلمة في تونس والجزائر والمغرب ولم يفلح، صار حينها يرى لزاما عليه وهو خارج لا محالة من هذه البلاد التي وجدها منيعة أمام محاولات التغريب والفرنسة، عصية على الإفساد بسبب قوة العقيدة وصدق الانتماء إلى الدين والوطن الذي لم تتوقف مآذن مساجده من توحيد الله تعالى، من عدم توقيف المشروع الأكبر له، فكان في ما أعده من أذناب وتلامذة وعملاء طريقة أخرى لإنهاء ما كان بدأه، وكان يرى فيهم الأهلية بسبب لسانهم الموافق لألسنة أهل المغارب الثلاثة، معتمدا على نظام النفاق الذي سيمارسه هؤلاء بقصد تسريب عمليات الإفساد إلى عمق المجتمعات المغاربية، وكانت المرأة هي الهدف الأول المسطر لهؤلاء العملاء تبعا لما كان عليه سيدهم المحتل.
فكتب “Frantz FANON”، وهو طبيب نفسي وفيلسوف اجتماعي من جزر المارتنيك المتوفى سنة 1961م، والذي كان يوصف بأنه المارتيني الجزائري في كتابه “Sociologie d’une révolution- L’an V de la révolution algérienne” في فصل “الجزائر تتعرى”:
«سوف سيتحول الجلباب والنقاب باعتباره أحد مكونات منظومة اللباس التقليدي الجزائري موضوع معركة كبرى تجند فيها قوات الاحتلال أقوى مواردها المتنوعة، وسيقوم مجتمع الاحتلال بقيمه وخطوط قوته وفلسفته في وجه الجلباب والنقاب. قبل سنة 1954، وعلى وجه التحديد ما بين سنة 1930 و1935، بدأت المواجهة الحاسمة، فقصد مسؤولو الإدارة الفرنسية في الجزائر إلى تدمير أصالة الشعب الجزائري…فركزوا جهودهم على جلباب المرأة ونقابها باعتباره رمزا لوضعية المرأة الجزائرية، تحت القاعدة الشهيرة: «لنتمكن أولا من المرأة…لنتمكن مما بعدها»…
وكان العملاء أوفياء لهذا الخط التخريبي، فقد حرصوا على تغريب المرأة المسلمة، قاصدين إلى تعريتها من لباسها وفصلها عن حيائها، قال الدكتور أحمد الأبيض التونسي في “فلسفة الزي الإسلامي ص24 /المطبوع في المغرب”:
«ولقد عملت الدوائر الاستعمارية وكذلك كل الزعانف والأذناب الدائرة في فلكها على ضرب كل مواصفات الهوية الحضارية وعلى إزالة كل رموزها ومؤشراتها التي شكلت عوائق أمام التغلغل الثقافي والحضاري والاستكباري الغربي، ومن جملة هذه العوائق يقف الزي الإسلامي للمرأة في وطننا، والذي مثل تناقضا صارخا مع الخيار الأوروبي ورمزا شديد الحضور للهوية، ولذل صرح أحد قادة الاستعمار الفرنسي “إن حجاب المرأة الجزائرية أخطر على استقرارنا من العديد من قذائف الثوار”».
رسائل النص إذن ثلاثة:
1- لباس المرأة المسلمة من رموز ومؤشرات ومواصفات الهوية الحضارية الإسلامية.
2- لباس المرأة من أشد العوائق أمام التغلغل الثقافي والحضاري والاستكباري الغربي.
3- يتولى أمر ضرب هذا المؤشر الحضاري والعائق أمام الاستكبار الغربي.. الدوائر الاستعمارية والزعانف والأذناب من عملائه في بلاد المسلمين من المرتزقة والعلمانيين.
مما ينبغي ملاحظته، أن البرقع والنقاب كان لباس نساء مكة والمدينة.. شائعا عندهن، وهو من عمل أهل المدينة، جائز شرعا، بل مستحب على طريقة المالكية في الاستدلال بعمل أهل المدينة رجالها ونسائها…
وقد سئل الإمام مالك عن لبس المرأة المحرمة للبرقع في الحج كما في المدونة فمنع من ذلك، وهذا يعني أنه يعرفه ويقر لبسه في غير الإحرام…
بل إن الإمام مالكا أباح للمرأة المحرمة في المدونة أيضا أن تسدل ثوبا على وجهها إن أرادت التستر وهي محرمة.
هذا النقاب أو نظيره البرقع الذي عرف منذ القدم، كان خلقا تلتزم النساء به في ممارساتها خارج البيت، وقد أقره الشرع الإسلامي الذي بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم به ليتمم مكارم وصالح الأخلاق، فهو على هذا وبشهادة الإقرار القرآني والنبوي خلق محقق، وأدب مرعي فطرة وشرعا.
لعل قائلا يقول: منعها من البرقع في الحج يعني منعها مطلقا، وهذا فهم فاسد.. وإلا فستكون إباحته لسدل الثوب على الوجه للمرأة في الإحرام يعني إباحته مطلقا.
ومن لطائف الشهادات المغربية، قول العلامة القاضي محمد بن عبد السلام السايح المتوفى سنة 1948م في “لمحة بصر على البلاد المقدسة ص:168و169”:
«ومما استلفت نظري بالمسجد النبوي كثرة الزائرات المصريات اللاتي كنت أشاهدهن بالمسجد سافرات الوجه، ويترددن في شوارع المدينة كذلك، أما نسوة المدينة فلا زلن على حجاب شديد الوطأة، تمشي المرأة في ثوب أسود قد جللت به جميع بدنها لا تبصر ما أمامها إلا من سجفه الرقيق، وكذلك نساء البدو يبالغن في ستر وجوههن بلثام أسود يثقبن فيه نقبا يقابل الأعين …وحديث الحجاب والسفور هو اليوم شغل الأندية»… وقد نبه القاضي السايح إلى أنه ألف رسالة في الحجاب، ولعلها المعروفة باسم “تنبيه ذوي الأحكام إلى صفة الحجاب في الإسلام”.
وتدل شهادته بالتصريح والإيماء على ثلاثة أشياء:
1- أن السفور لم يكن مألوفا في المغرب زمن الاحتلال، وهذا يعني أن المرأة المغربية عموما بقيت متشبثة بتغطية وجهها.
2- على أن تغطية المرأة المسلمة في المدينة النبوية مدينة الإمام مالك عمل مستمر من العهد النبوي ولذلك قال: “فلا زلن”!
3- أن لباس المرأة وتغطيتها وجهها كان دائما قضية كبرى حاضرة في الفكر الإسلامي في زمن الاحتلال الغربي.
لقد انتبه علماؤنا إلى أن النقاب مما يحقق مقاصد شرعية كبرى، أشار إلى هذا العلامة الدكتور فريد الأنصاري في “سيماء المرأة في الإسلام ص113و114” فقال:
«لا أدعو إلى سفور الوجه، كلا فليس لي أن أدعو إلى نبذ فضيلة شرعها الله تعالى لنساء المؤمنين! فالنقاب مشروع ولكنه ليس بواجب! وقد صح فعله عن الصحابيات بأدلة ثابتة، منها ما أخرجه البخاري من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين”، وفيه دليل على أن المؤمنات كن يلبسن النقاب في غير الإحرام، وإنما النقاب غطاء الوجه، ومنها ما صح عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنها قالت: كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام… فإسدال النقاب على الوجه فضيلة، لا ينكرها إلا جاحد أو غال، فإذا علمنا أن التخفي مقصد من مقاصد التشريع في أحكام اللباس في الإسلام، علمنا أن النقاب وهو أحوط للتخفي زيادة في الخير ومنزلة في الفضل، تتقرب به الصالحات إلى الله تعالى».
قلت: يقوم كلام العلامة فريد الأنصاري على دعائم ثلاثة:
1- أن النقاب مشروع بالدليل.
2- النقاب فضيلة وقربة إلى الله وزيادة في الخير.
3- النقاب أحوط للتخفي بمعنى السترة الأخلاقية، والتخفي مقصد من مقاصد الشريعة.
من الأمور الغريبة المثيرة للاهتمام أن الصحف الفرنسية الكبرى مثل جريدة لوموند نشرت مقالا عن ما يذكر من منع البرقع على حد قولهم من المغرب، وتواطأت هذه الصحف على إرفاق صورة للباس المرأة الأفغانية مع مقالاتها، موهمة أن المنع متعلق به، وكذلك فعلت بعض الصحف المغربية مثل “الأحداث المغربية”، وواضح جدا أنها توافقات تدل على أن المنبع واحد، والمصدر متحد، فليس في المغرب لباس أفغاني، أو نقاب أفغاني كما في بعض الإشعارات الصادرة عن جهات محسوبة على وزارة الداخلية.
فما تغطي المرأة المغربية به وجهها لا يخرج عن أن يكون نقابا أو برقعا عربيا متطورا كغيره من الألبسة القديمة، ثم لماذا يصر الكتاب العلمانيون على الإساءة للباس النسوي الأفغاني، أليس لباسا تقليديا تراثيا للأمة الأفغانية، ألم يتعلموا أدب الحديث عن تراث غيرهم، لهم تراثهم ولنا تراثنا، لم لا يقولون إنه لباس يهودي، إذ معلوم أن طواف من اليهوديات الأصوليات يحرصن على تغطية وجوههن بالكامل، أم تراهم يخشون الحديث عن اليهود؟!
إن الجهات التي باشرت منع بيعه وإنتاجه -ولعلها تغامر بالقفز إلى منع لبسه- تراهن على فتنة في البلاد، تضر العباد، وتضيع علينا فرصة تاريخية لتسريع عجلة التنمية، وتفسد مشاريع الإصلاح والنهضة في البلاد، والأقبح من هذا ما تفعله الأقلام والألسنة العلمانية في المغرب، من صب المواد القابلة للاشتعال على نار هذه القضية، غير آبهة بمآلات القول والفعل، فما يهمها هو تحقيق انتصار على خصمها الفكري الذي لم تستطع أمامه حيلة لضعف البضاعة وسخافة المنتوج المعروض، فالمجتمع المغربي لا يزال على فطرته، لا يقبل إلا من يوافقها لا ما يضادها، فكفوا ألسنتكم وأقلامكم يا معشر مدرسة المشاغبين العلمانية عن إثارة الفتنة، فلعنة الله على موقظها، واللهم احفظ المغرب، احفظ له نعمة الأمن والإيمان.