تعد هذه الآفة هي مصيبة المصائب؛ فترى من كان صريع الجهل، متشبعًا بما لم يعط، ينصب نفسه مرجعًا للفتيا، ويتملكه العجب فيلمز أكابر العلماء، ويفري أعراضهم، ويسفه أقوالهم، فيصد الناس عن سبيل ربهم، بصدهم عن الأدِلاء عليه.
وقد كان السلف رحمهم الله ينكرون عليهم أشد النكير ويحذرون من ذلك أشد التحذير، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إنكم لن تزالوا بخير ما دام العلم في كباركم، فإذا كان العلم في صغاركم سفَّه الصغير الكبير).
قال أبو وهب المروزي: (سألت ابن المبارك: ما الكِبْرُ؟ قال: أن تزدري الناس، فسألته عن العجب؟ قال: أن ترى أن عندك شيئًا ليس عند غيرك، لا أعلم في المصلين شيئًا شرًّا من العُجْب).
ولقد أصاب المأمون عندما قال -متهكمًا بهذا الضرب من الطلبة-: يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام، ثم يقول: أنا من أهل الحديث.
وفي هؤلاء يقول أبو الحسن القالي رحمه الله:
لما تبدلت المجـالس أوجــهًا غير الذي عَهِدته من علمائها
ورأيتها محفوفة بسوى الأُلَى كانوا ولاة صدورها وفنائها
أنشــدتُ بـيـتًا ســائرًا متقدمًا والعين قد شرقت بجاري مائها
أما الخيامُ فإنهــا كخيـامـهــم وأرى نساء الحي غير نسائها
قال الشافعي رحمه الله حيث يقول: (لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله، إلا رجلا عارفا بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيم أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيرا باللغة بصيرا بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل – مع هذا – الإنصات وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأفكار، وتكون له قريحة (أي ملكة وموهبة) بعد هذا، فإن كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي).