ليس في ديننا ثغرة مخوف، وليس في شريعته ما يجعلنا ننظر إليه كمعرّة نمشي متأبطين لمسبّتها بين الخلق في إغراب وتهمة حائدة تجعلنا مدينين لكل الناس…
ولا شك أن من عقل مصادر هذا الدين وسبر أغوار سيرة سيد الخلق وتاريخ أمته الموصولة بالله من بعده، لا يمكن لذاته ولا لعقله أن يحس بالدونية والنقص عند مقارنته بين زخم تراثه الحضاري، وبين كل الملل والنحل والفلسفات والمدنيات الحداثية…
لا يمكن لمن حظي بشرف الانتساب إلى هذا الدين أن يشعر بثقل وضيق لباسه الضارب في عمق الأخلاق الحضارية، لا يمكنه ذلك وإن شذت بعض شياطين الانتساب إلى قلعة الغلو والجهالة المركبة والنذالة المغلفة اعتسافا بنصوص الوحي، ذلك أن سليمانية المملكة الإيمانية ظل أهلها هم الأعلون فما كان لها ولا لهم أن يتأثروا في تماهٍ مع هذا الشذوذ، فهل كفر سليمان عليه السلام لمّا كفرت الشياطين؟؟؟
فقد تربينا في دائرة هذه العلوية وهذا الإنصاف الأخلاقي على معاملة غيرنا من أهل الملل والنحل الأخرى بالحسنى والإحسان، وتحريم التعرض لذمتهم وذواتهم بقطع طريق أو اغتصاب عرض أو إبانة شجر أو هدم عمران حجر أو لصوصية مال في غير مغنم لحرب يقودها ذو بيعة وسلطان، وهي معطوفات لا تنافي في إجمالها ولا عند عرض تفاصيلها عقيدة الولاء والبراء، وخاصة في من خُص بالذكر والوصف من أهل الذمة والمستأمنين بعهد من ذي السلطان، وقد كان على مرّ التاريخ الإسلامي من أكبر البغي وأظلم العدوان التعرض لهؤلاء بشرٍّ أو لمم جريمة…
ولا ريب أن عقل الكتاب والسنة وسيرة سيد الخلق، هو عين العقل الذي حمل إمام الأندلس ابن حزم زمن التمكين والقوة إلى أن يدعو في إقرار وتوصية بما مفاده :” أن من واجب المسلم للذميِّين الرفق بضعفائهم، وسد خلة فقرائهم، وإطعام جائعهم، وإلباس عاريهم، ومخاطبتهم بلين القول، واحتمال أذى الجار منهم -مع القدرة على دفعه- رفقا بهم، لا خوفا ولا تعظيما، وإخلاص النصح لهم في جميع أمورهم، ومدافعة من يتعرض لإيذائهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يُفعل معهم كل ما يحسن بكريم الأخلاق أن يفعله”.
ولك ولواسع نظرك أن تقارن بين هذا النص الحضاري الأخلاقي المنظم والضابط لحياة غير المسلم في دولة ونفوذ الإسلام والمسلمين، وبين ما تلا هذا التسامح والتعارف إبان وبعد سقوط دولة الأندلس واندراس الحكم الإسلامي بعد سطوة دولة “القوط” من محاكم تفتيش وانتهاكات عدوانية وظلم غاشم حاقد لا يبقي ولا يذر، بحيث لم تكن فيه ولا له منطقة أعراف أو وسط بين التنصير والتهجير ابتداء، وبين التنصير أو القتل والتنكيل ثانيا.
وربما لم نكن في حاجة إلى عرض تلك المآسي بتفاصيلها، كما لم نكن في حاجة إلى طرح السؤال التاريخي الذي يحيل على كم وكيف ذلك الاختلال الذي اكتوت به الحياة الإنسانية للمسلمين في شبه الجزيرة الأيبيرية، من حيث أنه سؤال يستفهم ويبحث في ماهية المعلوم من الواضحات بالضرورة، من جهة المنطلق إلى المآل إلى النتيجة التي كان عنوانها الأليم “الإبادة والتطهير العرقي الغاشم”.
ثم من يجرؤ على أن يخفي شمس الحقيقة بغربال الكذب ودعوى البراءة، في ظل شهادة كل الأبعاد التاريخية من منطلقات المأساة إلى كوارث المآلات إلى كبريات مصائب النتائج، التي تشرح بالسند التاريخي المتواتر حقيقة انقراض الجنس المسلم من بلاد الأندلس، مع استثناء بقية باقية من معشر المؤمنين الأوفياء ممن جنح في غربة إلى عبادة الله سرا على ضعف خشبة، وفزع وتوجس من انكشاف أمرهم أو انفضاح سيرتهم وسريرتهم الممتحنة.
وقع كل هذا وغيره مما يعف اليراع على حبر تفاصيله، واستمرت إلى اليوم آلة القتل الغربية في سيل متصل من التدمير والتشريد وما تلبست به سيرة الرجل الأبيض من بطش غير منقطع ولا راحة زمنية معه ومن مآسيه، حتى أن الواقف على هذه السيرة لا يكاد بين تهارشها وتكالبها وبغيها وطغيانها، وبين سيرة الحيوان في جوعه وخوفه وشهوته، اللهم من جهة أن الحيوان متى ما جاع أو خاف أو اشتهى، فإنه لا يستطيع أن يستر عدوانيته أو يواري نيته أو يطوي مآرب هجومه، على عكس وحشية الإنسان فلطالما أخرجها في قالب عواء مصلحي ظاهر مسمياته الرحمة وباطن سلوكه العذاب والاستبداد، مسميات من قبيل الحماية والتحرير والانتداب وتحقيق العدالة والمساواة، ونشر الأمن ودفع الشرور عن الناس وعن جنس المرأة خاصة.
وليس يدري المرء متى كانت ومتى تمتعت مدنية الغرب بهذه المزايا والخلال الفاضلة، وذلك وجهها الكالح وتلك سيرة مفاسدها تعمر جنبات الأرض، وتتلصص مناكبها، وهذه الشعوب المستضعفة تعاني في كنفها وكأنها أيتام قُدِّمت كطعام في مأدبة الجوعى من اللصوص والقتلة اللئام.
ويا للعجب كيف لبعضنا أن يضرب صفحا عن كل هذا المروق والظلم والجور والقتل والفتك الذي مارسه الرجل الأبيض، ولا يزال يمارسه، مع أن هذا البعض الذي هو من كلِّنا يحسب على الإسلام والمسلمين كل صيحة وصغيرة، بل يرمينا بكل سوء ويتهمنا بكل كبيرة، وكم يؤسف أن هذا الجحود وهذا الصفح لم يقر يوما أو لحظة للإسلام ولا للمسلمين بفضيلة، أو لا بمزيّة قدّموها للإنسانية.
وها هم علماء الإسلام وسادة المسلمين قديما وحديثا يقرون في صدع على أن العنف هو مظهر من مظاهر العدوان، ويسمّون الأسماء بمسمّياتها، بل يحجرون عبر فتاويهم على فعل المسلم وحركته، فيجعلونه يرسف في قيود الصبر والسماحة والتعايش ومجادلة الألسن والأفمام بالتي هي أحسن…
فهل تجرأ أحد القساوسة أو الباباوات على تعاقبهم برفع العقيرة في إنكار ومدافعة ما يقع علينا من اعتساف حكوماتهم، ومن جور وظلم واعتداء جيوشهم الجرارة، فغاية ما هنالك إن لم يكن كذبا وزيفا فصمت طويل البيات يؤشر بالتضمن والالتزام على ردم منابع هذا الدين، ووأد أهله تحت ركام خليط من حجرنا ودمنا ولحمنا وأعراض حرائرنا، ولا جرم أن مبعث هذا كلِّه هو معتقدهم فينا وفي وجودنا وفي ديننا الذي هو عصمة أمرنا، فلم يكن ـ معتقدهم ـ في يوم من أيام دهرهم ودهرنا منشؤه عقيدة واعية متسامحة، وإنّما هي أحقاد وعصبيات متوارثة منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإلى يوم الناس هذا.
وإنها والله وبالله وتالله لبعثة من الهدى والرحمات نتشبت بعراها ما حيينا، ونمشي على صراطها المستقيم ما ظلت في جوفنا أنفاس منفوسة، وإنها نسبة آوتنا من يتم وآنستنا من وحشة، وهدتنا من ضلالة، وأغنتنا من فقر وعيلة، وأعزتنا من بعد ذل ومهانة و… فأين الثرى من الثريا؟؟؟
وأين البديل عن حضارة وسمو هذه البعثة الكريمة؟
وهذا التاريخ يشهد بأن الدنيا ما عرفت أرحم ولا أنفع من عدلها وصدقها وإحسانها الذي تجاوز الإنسان إلى أمة الطير والحيوان.
ثم أين هذا الخير وهذه الخيرية من مدنية الغرب، تلك المدنية التي لم تعرف الدنيا أسوء منها، وقد شهد التاريخ بملء صفحاته على ما قارفته يدها، يد البطش وما أوغلت فيه من إنزاف دماء بريئة، وما تلصصته من ثروات، وما التهمته من حرمات…
ويا ليتها كانت تسمِّي الأسماء بمسمّياتها، ولكنها للأسف تميّزت بصفاقة فاقعة السواد من جهة فرض سيئاتها في ثوب الحسنات، وتسفلاتها بأنها مظاهر إنسانية ضاربة في عمق الإحسان والارتقاء الحضاري، بل وارت معالم جريمتها وراء أكمة من الأقذار والأكدار المأمونة السير والمحفوظة السيرة، ثم خرّجت وأخرجت شهواتها العدوانية في قالب قوانين عادلة نزيهة، صارت تجمع لها الضعفاء في محفلها، محفل البغاة من الأقوياء لتناقشها تحت رعاية وسلطة وتوجيه واعتراض وموافقة آرية سبابتها العابثة سبابة “الفيتو”.