التربية والمجتمع في الوقت الراهن تتطلب منا وقفة تأملية تعنى بدراسة مصطلحاتهما والوقوف عند دلالتهما المعنوية والمعيارية، والحق أن هذه القضية قد شغلت بال كثير من المهتمين والمتخصصين قصد إرساء عوالمهما والحسم فيها، إلا أن هذا الموضوع تراكم فجعل الكثير من الباحثين بالشأن التربوي يتساءلون عن فحوى التربية وواقعها في المجتمع؟ وواقع المجتمع بالتربية؟ وعن العلاقة الرابطة بينهما؟
قد تستفزنا هذه الأسئلة وتظهر بأنها في سياق ونمط واحد، إلا أن المتأمل في كل مفهوم يدرك قيمة وثقل كل منهما، إن النظر في كل إشكال من هذه الإشكالات يبرز لنا الفرق الجوهري بينهما، مما يتطلب منا الاستعداد المحكم والبحث الدقيق لفهم عن أي تربية نتحدث؟ وأيها نريد؟ وما طبيعة المجتمع الذي يتناسق مع هذه التربية!؟
إن فحوى التربية كمصطلح شمولي هو مقاربة معيارية تتخذ شكل عملية التنشئة والرعاية والتوجيه من جانب الكبير اتجاه الصغير، والعالم حيال المتعلم، وأن الإسلام [ديانة] تناول شؤون كل فرد بالتوجيه والإرشاد والتعليم، فلم يدع في حياته شيئا إلا وأفاد فيه بما يصلحه. [1]
إن التربيةَ المنهجُ القويم الذي ينطبق على عالم الإنسان وعالم الحيوان، وبالرجوع إلى القرآن الكريم نجد التربية تهدي الإنسان إلى الاستقامة كما جاء في القرآن: «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم» (الإسراء 9)، وما وضع القرآن إلا ليكون رحمة وهدى للناس عامة «وهو دستور كامل للإنسانية يشتمل على العقائد والمعاملات والآداب الفردية والاجتماعية بأسلوب واضح وحجة قوية»[2].
فهذا الضابط للتربية من المربي الحكيم اشتمل على جملة القواعد التي تعتني بمكارم الأخلاق بما يتوافق مع مصالح العباد والبلاد، فما بالك عن واقع المجتمع من التربية؟؟؟
من المعروف عادة أن المجتمع كتلة متماسكة من الناس تسعى بتعاملها إلى تحقيق أهداف معينة كالحفاظ على الأمن والأمان، وتحقيق سعادة الدنيا والدين، كما تسعى هذه الجماعة أيضا إلى التعاون والتآزر وتشكل علاقات منسجمة تخدم بعضها البعض، ولا يمكن لأي أحد أن يفرق شملها أو يشتت مبانيها [ولا نقول يستحيل، لأن الواقع يعيش تمزقا وشتاتا فكريا وتربويا].
وقد نستعين بمؤسسات التنشئة الاجتماعية باعتبارها عناصر منبثقة عن المجتمع، وتؤدي دور معيّن ووظيفة قاصدة من التربية بغرض استخلاص مدخلاتها ومخرجاتها، فالأسرة مثلا تعد عبر عصور مضت مؤسسة تمارس التربية على الطفل نفسا وجسدا، علما وعملا، وإذا قلنا تمارس بمعنى أن التربية في حد ذاتها سلطة تطبق على المتربي [الصغير] وفق مبتغى الأسرة، التي تنقل إليه خبراتها ومعارفها ومهاراتها..، وهي في حد ذاتها تكُونُ على حذرٍ إذا لم تراعي [علم النفس] لمعرفة سيكولوجية الطفل، لأن الأسرة تعمل عليه كمشروع فتكونه لكي يصير عضوا مجتمعيا ومنتوجا يساير ويتكيف مع المحيط والنظام الاجتماعي تحت تأثير الفكر المدمج فيه.
أما في المدرسة، فـ«ترى التربية الحديثة أن المدرسة ما وجدت إلا لتكون بيئة يمارس فيها المتعلم نشاطه، ويرتقي عن طريقها لميوله ورغباته، وتحدد قدراته وإمكاناته.[3]
وبهذا تكون المدرسة وسط اجتماعي ذو طابع مؤسساتي منظم تؤدي وظيفة تربوية، بهدف إكساب المتعلم التفاعلات ليستشعر بالنشاط التعليمي، التي تحفيزه على العمل به، ودفعه إلى الانفتاح والتأقلم مع المحيط، وبالتالي يمارس الفكر كإطار سيسيولوجي على جيل يُترجّى منهم التجديد والإبداع كما هي سنة كونية تتغير بتغير البشر، وتتطور بتطور الفكر الإنساني، إلا أن هذه النسقية لا تكتمل إلا بمعرفة: ما حقيقة العلاقة الجدلية بين التربية والمجتمع؟
إن طبيعة العلاقة الجدلية المتواجدة بين التربية كمقاربة ابستمولوجية والمجتمع كقوة متناسقة هي علاقة تأثير وتأثر، ونستخلص ذلك من خلال العوامل التالية:
1) «عوامل فلسفية: وهي التصورات عن الإنسان والمجتمع والثقافة.[كصورة من الخارج]
2) عوامل نفعية: مثل الحاجيات الاقتصادية والاجتماعية، ورغبات التلاميذ والآباء والمشتغلين، ومتطبات التشغيل والصحة» [4].
فنمط التفكير السائد في التصور لدى الإنسان وثقافته هو الذي يعبر عن نمط مجتمعي في تربيته، وحتى لا نكون نمطيين أو ممن يصدر الحكم قبل محله، نقول: إن من يثمر الاستمرارية في عمل المجتمع بتربيته الابستمولوجية هو الدين، وقد سبق أن قلنا هو الهادي إلى السعادة ويسهم في بناء الأسس المجتمعية، فالدين هو التربية، وإنما الإنسان يتحلى به فينهل منه التعليمات والتعلمات التي توضح له المنهاج العام للحياة.
والناظر في تعاليم الدين الإسلامي مثلا، يجد أنه حوى بين عناصره كل الأسس الفكرية والنفسية والأخلاقية، وهي التي تعمل على تكوين الإنسان تكوينا فكريا وروحيا وأخلاقيا بشكل يتماشى مع واقعه ومجتمعه وفق فطرة الوجود التي خلق الله عليها الإنسان.
وبالتالي «فالمجتمع يوجه التربية انطلاقا من قيمة وثقافة وأنماط عيشه ومعتقداته، بينما التربية تضع استراتيجية تمكنها من تحقيق المعايير والغايات التي يود المجتمع تبليغها وتكرسها لدى الأفراد -وبتعبير أدق-، فالتربية من خلال نشاطها وبنياتها تنتج طاقة بشرية وفكرية مادية -وقد سبقت الإشارة إليها-[5] هذه الطاقة البشرية تؤثر في المجتمع بقيمه وأنماط سلوكه عن طريق إصلاح أو تطوير أو تغيير تلك القيم والأنماط السلوكية، فيوجد المجتمع الذي حصل فيه هذا التأثير من جديد نحو استراتيجية تلائم ذلك التعبير الذي حدث دون أن نغفل العامل الديني باعتباره المساعد المعنوي لتقعيد التربية ومساعدة معياريتها في الوجود والواقع الإنساني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع:
1- من قضايا التربية الدينية في المجتمع الإسلامي، لكمال عبد الغني مرسي. (ص185).
2- المصدر السابق نفسه (ص28).
3- طرق تدريس التربية الإسلامية نماذج لإعادة دروسها، د. عبد الرشيد عيد العزيز سالم، (ص42).
4- سلسلة علوم التربية، البرامج والمناهج من الهدف إلى تنسيق من تأليف عبد اللطيف الفارابي -محمد أيت موحى- عبد العزيز الغرضاف. رقم العدد 4 – ط2 – 1992م.
5- (المصدر السابق بتصرف)