لكل أمة قادة وزعماء، يتأسى بهم أبناؤها، ويقتدي بهُداهم أجيالها، جيلا بعد جيل، يستمدون منهم قوة الانتماء، والشعور بالفخر، والاعتزاز بالانتساب لأمة فيها عظماء مثلهم، فيغارون كلما مس جنابهم أو استهزئ بأحد قادتهم، لأنهم هم التاريخ والذات الهوية. فيبقى القادة خالدين، ما بقيت أمتهم مرتبطةً بأصلها وهويتها ومقومات وجودها التاريخي، فإذا انفصلت الأمة عن رجالها وزعمائها الذين صنعوا مجدها، وأثلوا تاريخها، اضمحلت واندثرت، وتشتت شملها وذهب ريحها وأصبح أبناؤها شيعا خاضعين لأعدائهم.
والأمة المسلمة لم يكن لها وجود إلا بالإسلام ولا وجود للإسلام باعتباره دينا خاتما، إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جمع الله به قلوبهم على الإيمان والحب والتعاون والتكافل، عربهم وعجمهم، بعدهم وسيدهم، بعد أن كانوا ضلاَّلا جهالا، يصنع أحدهم إلهه من عجوة تمر ثم إذا جاع أكل معبوده، فزكاهم بالدين وعلمهم الكتاب والحكمة، فسادوا العالم، وأصبحوا قادته، تهابهم القوى الكبرى، وتحترمهم الأكاسرة والقياصرة والتبابعة.
لهذا، ليس هناك منة لله على المسلمين ولا نعمة أعظم من بٓعثه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم رحمة منه لهم، وفضلا منه عليهم، قال سبحانه: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
فهو صلى الله عليه وسلم رسولنا الذي عرّفنا على ربنا سبحانه، وعلمنا ما ننجو به من عذاب الله يوم القيامة، فهو قدوتنا في أمور دنيانا حتى لا نضل ونشقى، وأسوتنا في الحياة حتى لا نزل ونردى، وهو قائدنا في الدنيا وشفيعنا في الآخرة.
لن ندخل الجنة حتى نؤمن به صلى الله عليه وسلم، ولن نصل إلى حب الله ورضاه إلا باتباع سنته وهديه، قال الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ).
أتانا بالهدى والحق ليخرجنا من الظلمات إلى النور، وبلغنا قرآنا يهدي إلى أقوم سبيل، وأرشد طريق قال سبحانه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا، وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف مكانته، ولا يُقدره قدره إلا من علم معنى الشهادتين، وفقه مقتضياتهما وشروطهما وابتعد كل البعد عن نواقضهما وما يخدش في التوحيد إيمانا واتباعا.
ومهما أطلنا الكلام، ومهما أظهرنا من فضل نبينا ومكانته صلى الله عليه وسلم في الدين، فلن نوفيه حقه، ويكفيه صلى الله عليه وسلم أن الله قرن الشهادة والإقرار برسالته مع شهادة العبد والإقرار بتوحيد الله، إذ لا يصح إسلام عبد حتى يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فلا غرابة إذاً -إن كنا مسلمين-، أن نعادي من يسبه، ونكره من ينتقص منه، ونقاطع من يمس جنابه الكريم. بأبي هو وأمي صلوات ربي وسلامه عليه، فإذا كان الواحد من الصحابة رضوان الله عليهم يقول للنبي صلى الله عليه وسلم والرماح والسهام نوازل: «نحري دون نحرك يا رسول الله»، فإن علينا نحن أن نقول: «أموالنا وأعراضنا وأنفسنا دون عرضك يا رسول الله».
فأي كرامة تبقى للإنسان المسلم إذا مس عرض النبي صلى الله عليه وسلم؟
وأي حياة وأي إيمان يتبقى للمرء إذا انتهكت حقوق المصطفى وسب وأهين؟
فَإنّ أبي وَوَالِدَهُ وَعِرْضي — لعرضِ محمدٍ منكمْ وقاءُ
لكن للأسف، اضطربت الموازين عند بعض المنتسبين للإسلام، وتمكن منهم التغريب، والجهل بالدين، وفسدت عقولهم بشبهات الفكر العَلماني، حتى رأيناهم يجعلون قيمة الرسوم الكاريكاتورية فوق قيمة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، الأمر الذي يجب معه أن يستنفر المؤمنون كل قواهم للتعريف بالرسول الكريم، إبراء للذمة، وقياما بواجب البيان والتبليغ.
فعلى المسلمين أن يتعاونوا على التعريف بسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لدى كل فرد فرد حتى لا يبقى في الأمة من يجهل قدره الرفيع ومكانته العلية.
كما عليهم أن يطالبوا جميعا من خلال مؤسساتهم ووزاراتهم ومدارسهم وجمعياتهم، جماعات وأفرادا، أن تشمل مقرراتُ التعليم في كل الشعب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملة.
ولكم يشتد الأسى والحزن عندما نرى قنواتنا التلفزية، لا تقيم لسيرته صلى الله عليه وسلم وزنا، حيث تتجاهل عمدا كل مادة إعلامية تنشر سيرته، وتعلي من مكانته اللائقة به، بصفته رسولا لشعب مسلم.
بل على العكس، تغرق أبناءنا وأطفالنا وشبابنا في بحر متلاطم من المسلسلات والأفلام الهابطة، والرسوم المتحركة التي تساعد على قطع المسلم عن جذور هويته ودينه.
إننا عندما نعرف برسول الله ونرد على الشانئين، إنما ندافع عن تاريخنا ووجودنا وكياننا وهويتنا، وديننا الذي هو عصمة أمرنا، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال له ربه -عندما قام سلف هؤلاء الشانئين يستهزؤن به ويصدون الناس عن دينه، ويحولون بينه وبين واجب التبليغ عن ربه-: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل
ettalebibrahim@gmail.com