جوامع الكلم في القرآن الكريم حسن بنعباس

الكلمة الجامعة
إن أول ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن، العلوم اللفظية؛ ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفردة، فتحصيل معاني مفردات ألفاظ القرآن في كونه من أوائل المعاون لمن يريد أن يدرك معانيه، كتحصيل اللبن في كونه من أول المعاون في بناء ما يريد أن يبنيه…
فألفاظ القرآن الكريم: هي لب كلام العرب وزبدته وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم([1]).
ولما كانت المفردة الجامعة هي نواة الجملة الجامعة، فإذا أخذنا مفردة جامعة وأضفنا إليها مفردة مثلها، أعطيا معاني كثيرة.
وهكذاـ ارتأيت أن أخصص هذا الحلقات للحديث فقط عن المفردة الجامعة.
وقبل الشروع في المراد، لابد من معرفة بعض الأمور الممهدة للمقصود.
ـ دلالة الألفاظ على المعاني:
شغلت مسائل اللفظ والمعنى و(المرجع) الباحثين قديما وحديثا.
وتبين من خلال أبحاثهم وشروحهم الشعرية… أن اللفظ من حيث علاقته مع المعنى و(المرجع) أنواع هي: المتباين، والمترادف، والمشترك، والمتواطئ، والمتشكك.
وقد وقفوا من هذه الأنواع مواقف متباينة. فكان منهم من نفى وجودها في اللغة العربية، ومنهم من أثبت ذلك وألف فيه كتباً. وقد أسهم الجدال الذي احتدم بينهم في ظهور الوعي المنهجي باللفظ والمعنى والمرجع وبآليات إنتاج الدلالة.
ويبدو أن من أقدم المحاولات التنظيرية لهذه الأنواع، تلك التي نجدها عند سيبويه في “الكتاب” حيث قال في باب اللفظ والمعنى: اعلم أن من كلامهم -أي العرب- اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين([2]).
وسأبين ذلك بشيء من التفصيل:
أ ـ المتباين:  وهو اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، أي: ما تغاير لفظه ومعناه في أصل الوضع، سواء كان اسما، أو فعلا، أو حرفا، وقد مثل له سيبويه بالفعلين، جلس وذهب([3] وهذا هو الغالب في اللغة.
ب ـ المترادف: وهو الاختلاف في اللفظ والاتفاق في المعنى، مثل: ذهب وانطلق، الدالان بالتعيين على السير والمرور في زمان ومكان.
ج ـ المتواطئ: وهو أن يتحد اللفظ والمعنى، وتكون الأفراد متساوية في أصل المعنى، وذلك كالإنسان، فإن أفراده متساوية في أصل المعنى الذي هو حيوان ناطق.
د ـ المتشاكك: وهو أن يتحد اللفظ والمعنى، وتكون الأفراد متفاوتة في أصل المعنى، فيحصل الشك، فقيل في اللفظ مشكك كالمعنى، وذلك كالبياض فإنه يتفاوت في أفراده قوة وضعفا، ومثله النور.
هـ ـ الاشتراك: وهو أن يتحد اللفظ ويختلف المعنى، كلفظ “عين” تطلق على الجارية والجارحة والذهب والفضة والجاسوس([4])
فمن خلال ما تقدم يظهر أن اللفظة الواحدة قد تحوي معنيين أو أكثر، إلا أن هذه المعاني قد تكون متعارضة، وقد تكون متوافقة، ولكل من المتعارضة والمتوافقة أسباب سأذكرها بعجالة حتى تكتمل الصورة.
1ـ معاني متعارضة:
وهو أن يدل اللفظ على معنيين متعارضين أو أكثر، ولا يمكن الترجيح بينها إلا إذا دل السياق على المراد.
والسبب في ذلك ما يلي:
أ ـ تعدد اللغات: وذلك بأن تضع قبيلة لفظا لمعنى، وتضع قبيلة أخرى نفس اللفظ لمعنى آخر، ويجتمع اللفظان في لغة مجموعة لسانية واحدة.
ب ـ إبهام الكلام من المتلقي(التورية): وقد يكون هذا الفعل من واضع واحد بهدف الغموض وإبهام الكلام على المتلقي حين يكون التصريح سببا للمفسدة.
ج ـ الاشتقاق والتصريف: قال المرزوقي في شرح “الأرامل”، جمع أرمل، وهذه الصفة يشترك فيها المؤنث والمذكر، واشتقاقه من “أرمل القوم إذا نفذت نفقاتهم، وحقيقته: صاروا من الفقر في الرمل.
د ـ انحراف الصيغة: ويبدو أن انحراف الصيغة بتعبير ابن جني([5]) أو ما يسمى بتطور الصوت في اصطلاح المحدثين، كأن يجعل أحيانا لفظا يوافق لفظا نطقا ويختلفان في المعنى.
هـ النقل: ويرادف هنا المجاز، وذلك بأن تستعمل الكلمة في غير المحل الذي وضعت فيه أولا، وتبعاً لذلك يمكن أن يكون اللفظ مشتركا بين حقيقتين، أو حقيقة ومجاز([6]).
2 ـ معاني غير متعارضة:
وهي أن يدل لفظ واحد على معنيين أو أكثر ليس بينها تعارض.
والسبب في ذلك ما يلي:
أ ـ أن يكون اللفظ اسما جامعا في عرف الشارع، حتى أصبح مصطلحا من مصطلحات الشارع، كالعبادة، والبر، والتقوى، ونحوها.
ب ـ أن يكون اللفظ من الألفاظ المشتركة التي تحمل معنيين فأكثر دون تعارض بين هذه المعاني.
ج ـ أن يكون معنى اللفظ دائراً بين الحقيقة والمجاز، فيحمل عليهما معا دون تعارض كذلك.
د ـ أن تختلف أقوال المفسرين في اللفظ الواحد على معانٍ كثيرة اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد.
وتعتبر هذه الأسباب الأربعة بمثابة أنواع لشواهد الإعجاز القرآني في اللفظ الجامع، وسأحاول  إظهار وجه الجمع فيها -بحول الله تعالى وقوته- في العدد القادم.

([1])ـ  الراغب الأصفهاني “المفردات في غريب القرآن” ص 6 ط دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان.
([2])ـ “الكتاب” ج1 ص 49
([3])ـ نفسه ج1 ص 49
([4])ـ الشيخ محمد محفوظ “وحي القلم في شرح منطق السلم” مخطوط
([5])ـ “ابن جني “الخصائص” ط دار الكتب العلمية  ط 2 / 2003ج1 ص 313
([6])ـ “ندوة الدراسات المصطلحية والعلوم الإسلامية” جامعة محمد بن عبد الله ،كلية الآداب بفاس ج1/1993

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *