المجتمع المسلم يخضع في علاقاته لتعاليم الإسلام وأحكامه، وهو مجتمع يشكل نسيجا إنسانيا تربط بين أفراده علاقات ملؤها المودة والرحمة، وينبذ كل مظاهر التفرقة والتنازع والشقاق، ولا تقوم لمجتمع قائمة إذا لم تكن نواه المشكلة له، ألا وهي الأسر والعائلات، تتسم بصفات التراحم والتآزر والمحبة بين أفرادها، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} النساء:1.
وقد جاء الإسلام لتأكيد هذه القيم وتمتينها، وتتجسد هذه المعاني في مبدأ صلة الرحم، الذي يشمل معاني، الرقة والتعاطف والتواد والتراحم؛ قال الله عز وجل: {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} أي: أوصى بعضهم بعضا برحمة الضعيف والتعطف عليه..» اللسان 6/125.
وقد أوصى الله عز وجل بصلة الرحم وحفظها منذ بدء الخليقة، قال صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ تعالى خَلق الخلقَ، حتَّى إذا فرغَ مِن خلْقِه قامتِ الرَّحِمُ، فقال: مَهْ؟ قالَت: هذا مَقامُ العائذِ بكَ من القَطيعةِ، قال: نَعم، أمَا ترضَيْنَ أن أصلَ من وصلَكِ، وأقطعَ مَن قطعَكِ؟ قالَت؟ بلَى يا ربِّ! قال فذلكَ لكِ» صحيح الجامع:1761.
كما نفى عن قاطعها حظ دخول الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يدخلُ الجنةَ قاطعُ رحمٍ» مسلم: 2556.
وقرن الله تعالى قطع الرحم بالفساد في الأرض لما لها من إضعاف لتماسك المجتمع وزرع لبذور الحقد والتفرقة، واعتبر قاطعها ملعونا، أصم السمع، أعمى البصر والبصيرة، يقول الله تعالى: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ» محمد:22-23.
ويتدرج بنا الإسلام في توسيع دائرة المستحقين للوصل من الأضيق إلى الأوسع ومن الأقرب إلى الأبعد، فأولى العناية ابتداء بالأهل من أصول وفروع، وأوصى ببر الوالدين وفاضل الأم على الأب، فقد جاء رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: «مَن أَحَقُّ الناسِ بحُسنِ صحابتي»؟ قال: «أمُّك»، قال: ثم من؟ قال: «ثم أمُّكَ»؛ قال: ثم من؟ قال: «ثم أمُّكَ»؛ قال: ثم من؟ قال: «ثم أبوك».
ثم حث على الإحسان إلى الزوجة والأولاد والقيام بحقوقهم دون مفاضلة بينهم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كانَتْ لهُ امْرَأَتَانِ فمالَ إلى إحداهُما جاء يومَ القيامةِ وشِقُّهُ مائِلٌ» بلوغ المرام:315.
فعن النعمان بن بشير قال: «انطلق بي أبي يحملُني إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ، اشهَدْ أني قد نحلتُ النُّعمانَ كذا وكذا من مالي، فقال: «أَكُلَّ بنيك قد نحلْتَ مثلَ ما نحلتَ النعمانَ»؟ (نحلت أي أعطيت بلا مقابل) قال: لا. قال: «فأَشهِدْ على هذا غيري». ثم قال: «أيسُرُّك أن يكونوا إليك في البِرِّ سواءٌ؟» قال: بلى، قال: «فلا، إذًا» مسلم: 1623.
وتزداد الدائرة اتساعا لتشمل وصل الإخوة والأخوات والأعمام والأخوال وأبنائهم وبناتهم، ثم أمر بالإحسان إلى الجيران والأصحاب والسؤال عنهم وتبادل الزيارات معهم، يقول الله تعالى: «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًاۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا» النساء:36.
وتتسع بنا الدائرة إلى أبعد من ذلك، فيصير جميع المسلمين أسرة واحدة يحنو كبيرهم على صغيرهم؛ ويرحم قويهم ضعيفَهم؛ ويُفقه عالمهم جاهلهم؛ ويؤازر غنيهم مُعسرَهم، وهذا معنى الأخوة في الدين بين المؤمنين، يقول الله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» الحجرات: 10.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم، مَثلُ الجسدِ. إذا اشتكَى منه عضو، تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى» البخاري:6011، مسلم:2586.
ولا يتأتى هذا التواد والتراحم إلا بنبذ جميع مظاهر التحاسد والغل والأنانية والكبر والخيانة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسَدوا، ولا تَناجَشوا، ولا تباغَضوا، ولا تدابروا، ولا يبِعْ بعضُكُم علَى بيعِ بعضٍ، وَكونوا عبادَ اللَّهِ إخوانًا المسلمُ أخو المسلمِ، لا يظلِمُهُ ولا يخذلُهُ، ولا يحقِرُهُ التَّقوَى ههُنا ويشيرُ إلى صدرِهِ ثلاثَ مرَّاتٍ بحسبِ امرئٍ منَ الشَّرِّ أن يحقِرَ أخاهُ المُسلمَ، كلُّ المسلمِ علَى المسلمِ حرامٌ، دمُهُ، ومالُهُ، وَعِرْضُهُ» مسلم:2564.
وبتقوية أواصر التعاون والتواصل، والاهتمام بأمر المسلمين وتتبع أحوالهم والإسهام في رفع الظلم عنهم ونصرة قضيتهم، وإن حالت بينهم المسافات ولو بالقلب والوجدان وذلك أضعف الإيمان.
وهذه الفضيلة لِما لها من فوائد خيِّرة من توسعة في الرزق وبركة في العمر، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن أحَبَّ أنْ يُنسَأَ له في أجَلِه ويُبسَطَ له في رِزقِه فلْيصِلْ رحِمَه» صحيح ابن حبان: 438.
فإن لزومها وتعاهدها بالاستدامة من دائرة الأسرة إلى دائرة الأمة، لها من منافع تماسك اللحمة وردء صدع الأمة غاية كبرى، وفيها من فوائد قوة الشوكة ومنعة الكثلة مقاصد عليا من حفظ للدين والأنفس والأعراض والأموال والعقول، فلا يتجرأ عدو على شق الصف ولا يتجاسر خصم على استباحة البيضة.
اللهم اجعلنا إخوة متوادين متراحمين..
وألِّف بين قلوبنا على صلاح الأمة والدين..
والحمد لله رب العالمين.