تدخل رواية «شجرة الدر» زوراً وبهتاناً ضمن سلسلة “روايات تاريخ الإسلام”. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية.
وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث مأساوية شهدها الواقع السياسي الإسلامي على المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر.
كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجيء ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شؤون البلاد بكفاءة واقتدار كما يزعمون؟!
وأنت تطالع الروايات البئيسة لهذا الحاقد الذي صنفه النقاد المنصفون من الصنف الرديء من المؤرخين، يلفت انتباهك الطامات الفكرية والتاريخية التي حوتها بين دفتيها، يتجلى لك بوضوح انعدام منهج وأمانة زيدان العلمية والتاريخية أيضاً، في كل كتبه ورواياته، ومنها ما نحن بصدد الحديث عنه، وهي روايته الشهيرة (شجرة الدر) التي يفترض القارئ قبل شروعه في مطالعتها، أنه سيجد فيها توثيقاً علمياً رصيناً للأعمال الجليلة التي قامت بها تلك المرأة “الفريدة”، فإذا بذلك القارئ المسكين الباحث عن الحقيقة التاريخية، لا يجد في صفحات هذه الرواية البالغة (165) صفحة، إلا قصة مختلقة كالعادة، تصور نساء السلطان الصالح نجم الدين أيوب بصورة النساء اللاتي يتاجرن بأعراضهن في سبيل الحصول على ما يتطلعن إليه.
وهذه الدعاوى التي أوردها حول “شجرة الدر” تختلف عن الحقائق الواردة في الكتب التي أرخت لهذه الفترة.
كما حاول أن يحكي لنا ما حدث لجارية حسناء مغنية اسمها “شوكار”، اخترعها خيال زيدان، ثم أوقع (الظاهر بيبرس) في حبها، ليدخله في صراع وهمي مع الخليفة المعتصم الذي طلب تلك الجارية، ولم ينلها، بل سطا عليها ابنه فيما بعد؟! أما معركة (عين جالوت)، والسلطان قُطُـز ودور بـيبرس في صنع النصر الذي حققه المسلمون في تلك المعركة الشهيرة، فلم يحظَ هذا كله بأكثر من مقطع صغير، في نهاية الصفحة الأخيرة من هذه الرواية؟!
فيا لحظ قارئها التعس، إن كان اتخذها ومثيلاتها مصدراً لمعرفة تاريخية؛ لأن مؤلفها قد مسخَ له هذه المعرفة، في مقطع واحد، عملاً بالمثل القائل: (خير الكلام ما قلَّ ودلَّ)، ثم شوَّقه بحوالي (165) صفحة، لبلوغ هذا المسخ المعرفي الذي لا يدلُّ إلا على براعة ذلك (المؤرخ الثقة)، في تحريف التاريخ الإسلامي وإخفاء حقائقه عن الناشئة؟! ورميهم بكل نقيصة وعيب وشر، كما يؤكد الدكتور شوقي أبو خليل، في سياق حديثه عما تضمنته روايات زيدان التاريخية التي أكَّد أن مؤلفها قد (تعمَّد فيها التخريب والكذب لأجل تحقير العرب عن سوء قصد لا عن جهل.. تعمَّد التحريف وتعمَّد الدسَّ والتشويه، وتعمَّد فساد الاستنباط مع الطعن المدروس… لعمالته الأجنبية وتعصبه الديني الذي جعله ينظر إلى تاريخنا العربي الإسلامي وآداب اللغة العربية بعين السخط والحقد)([1]).
بل ذهب في تحقيرهم إلى حد المبالغة في تشويه صورتهم التي رسمها لهم، والتي لا أجدها تختلف كثيراً عن تلك التي رسمها لهم أعداؤهم من أدباء إسرائيل المعاصرين، بوحي من عنصريتهم البغيضة.
بل إن زيدان سبق أولئك العنصريين بتشبيهه العرب بالحيوانات، في بعض رواياته، بغية الحطِّ منهم وتحقيرهم.. من ذلك مثلاً وصفهم بـ: “السخال والبغال”، في روايته (الأمين والمأمون) التي ليست أكثر من قصة خيالية اختلقها زيدان وأدار أحداثها حول شخصيتين أسطوريتين، ثم أقحم عليها بعضاً من أحداث التاريخ الإسلامي، لا كما وردت في مصادره المعتمدة بل كما شاءها حقده على العرب وأوحتها رغبته في تحقيرهم إلى درجة أنه كما يقول الدكتور شوقي أبو خليل: (ما ترك سيئة إلا وعزاها لهم، وما خلَّى حسنة إلا وابتزها منهم)([2]).
ولنقرأ عبارته التالية التي وردت في تلك الرواية عسى أن يكون مضمونها برهاناً يقنع المعجبين به جهلاً، بأنه لم يكن كما توهَّموه محباً للعرب والمسلمين بل كان شانئاً لهم وعدواً، وإلا ما كان ليصفهم، في معرض حديثه عن صراعهم مع خصومهم، في روايته هذه بالقول: (إن السخال لا تقوى على النطاح، والبغال لا صبر لها على لقاء الأسود)([3]).. ومن أولئك الذين عناهم زيدان بـ (الأسود)؟ إنهم الأعداء الذين هزمهم العرب المسلمون، في معارك شتى خاضوها ضدهم، وكانت كلها معارك حق ضد باطل ظالم آثم، حتى في اعتراف مؤرخي أولئك الأعداء أنفسهم.. لكن عزَّ على هذا (المؤرخ الثقة) أن يرى في انتصار العرب على أعدائهم أي حسنة يمكن أن تُعزى إليهم، فبادر إلى تحريف الهدف السامي للفتوحات الإسلامية، ولاسيما المبكرة منها، ليمسخها إلى غارات نهب وسلب لحضارة الآخرين، ولاسيما حضارة الفرس الغنية المتقدمة، كما نرى ذلك صراحة في روايته (الأمين والمأمون) نفسها التي جاء فيها: إن ما عند كسرى من ذهب وحجارة كريمة ذهبَ كله غنيمة للمسلمين، وهم يومئذ أهل بادية، حفاة عراة، لا يُفرقون بين الكافور والملح، ولا الجوهر والحصى… فاقتسموا الآنية، وقطَّعوا الأبسطة، ومزَّقوا الستائر.. وكان نصرهم من آيات تغلب البداوة على الحضارة…)([4]).
أما العرب – في نظر زيدان- فهم ليسوا ضعافاً ووضيعين ومتخلفين فحسب، بل (ما زالوا من الخونة العاصين)([5])، كما يصفهم، في روايته (المملوك الشارد).
وكأن كل هذا الثلب القبيح للعرب لم يشفِ حقد زيدان، فإذا به يزيد عليه وصفاً أكثر تحقيراً وإهانة، في روايته (عروس فرغانة) الخيالية الأحداث والوهمية الأبطال، كسائر رواياته الأخرى، وذلك حين يُجري على لسان إحدى شخصياتها العبارة القبيحة التالية: (والعربي بمنزلة الكلب، اطرح له كسرة واضرب رأسه!)([6])، ولا يُدافعَنَّ أحدٌ عن زيدان، فيقول: إن هذه العبارة لم تأتِ على لسانه صراحة، بل على لسان إحدى شخصياته الروائية، فهذا دفاع مردود؛ لأن من المعروف أن كاتب الرواية التاريخية تحديداً، حين يُنشئ حواراً بين شخصيات روايته، يكون مضمون هذا الحوار إما من تأليف الروائي، أو مستقىً من مصدر تاريخي ذي سند صحيح، إذا كان هذا الروائي ثقة، لا كزيدان الذي كانت غالبية شخصياته الروائية من نسج خياله، الأمر الذي يؤكد أن ما أجراه على ألسنتها من حوار، كان مرآة لموقفه المعادي لمن نصب نفسه راوياً لتاريخهم…
————————————————–
-[1] جرجي زيدان في الميزان، ص 307.
-[2] المرجع السابق، الصفحات: 188، 194، 199.
-[3] رواية الأمين والمأمون، ص 133.