العلامة الدكتور لحسن وجاج
أول ما يستشف من صيغة هذا الموضوع أن الثقافة المتحدث عنها صحراوية، وأن مقومات هذه الثقافة مغربية، لذلك يجمل بنا قبل الحديث عن ثقافة الصحراء أن نمهد لها بمقدمة توضح للسامعين مدلول الصحراء ومدلول المغرب الأقصى ومدلول السوس الأقصى، لأن المدلولات الثلاثة اعتراها بعض الغموض في استعمالات اليوم.
ومن ثم كان لزاما على كل من يريد التحدث عن ثقافة الصحراء أن لا يهمل جذورها الجغرافية والعربية والإسلامية والمغربية؛ ذلك لأن هذه الثقافة ما زالت تحتفظ بأصالتها العربية وطابعها الإسلامي وسماتها القومية المنحدرة من أصول عربية وبربرية شارك في تكوينها وانصهارها عناصر شرقية وأندلسية ومغربية في آن واحد، ثم تكوَّن منها هذا الشعب الذي يعرف اليوم بالأمة المغربية، وهذه القبائل المنبثة في المدن والجبال والسهول والصحراء متبنية هذه الثقافة إلى يومنا هذا، وبعبارة أخرى لا بد لمن يريد التحدث عن ثقافة الصحراء اليوم أن يمهد لها بوصف مجالها الزماني والمكاني الذي نشأت وترعرعت فيه.
فالتحدث عن ثقافة الصحراء إذن يقتضي منا تحديد مدلول السوس الأقصى ومدلول الصحراء وكونها إقليما من أقاليم المغرب، كما يقتضي منا الإشارة إلى تاريخ الفتح الإسلامي لهذا الإقليم والإشارة إلى أنواع العوامل التي وحدت بين الشمال والجنوب من هذه الأصقاع التي يطلق عليها اليوم المغرب الأدنى والمغرب الأوسط والمغرب الأقصى، كما يطلق على جزء منها السوس الأقصى والصحراء، وعلى الجزء الآخر السوس الأدنى.
أما عن مدلول السوس الأدنى والأقصى فيشير إليه ما ورد في معجم البلدان لياقوت الحموي عند قوله: “أطلق الجغرافيون العرب القدامى على منطقة سوس الحالية اسم السوس الأقصى مقابل السوس الأدنى الذي يشمل سائر بلاد المغرب الأقصى حتى البحر المتوسط”. ج5ص172.
وأما عن مدلول السوس الأقصى وحده فأقدم إشارة إليه؛ ما ورد في تاريخ ابن خلدون ج4 ص14، ونصه: “خرج إدريس الثاني غازيا بلاد المصامدة فانتهى إليها واستولى عليها ودخل مدينة نفيس ومدينة أغمات وفتح سائر بلاد المصامدة، ثم إنه قسم مناطق الدولة بين أبنائه فكان أن اختص عبد الله بأغمات وبلد نفيس وجبال المصامدة وبلاد لمطة والسوس الأقصى”.
وأما عن اتحاد الشمال بالجنوب وامتزاج عناصر العرب بالبربر فيشير إليه الدكتور محمد حجي بقوله: “ولا تتفق الروايات التاريخية على وصول العرب الفاتحين الأولين إلى سوس، لكن من المحقق أن أسرا عربية كثيرة استقرت في هذه المنطقة عبر عصور التاريخ الإسلامي وامتزجت بالسكان الأصليين امتزاجا قويا حتى لم يعد من الممكن التمييز بينهما إلا في شجرات الأنساب المحفوظة في الرسوم أو كتب التراجم”
وعن التواصل الثقافي بين أجزاء المغرب الكبير يقول الدكتور حجي: “لم تنقطع الصلات الثقافية بين أجزاء المغرب الكبير طوال العصر الإسلامي لانعدام الحواجز الطبيعية بينها ولخضوعها في الغالب لسلطة زمنية واحدة” .
يضاف إلى هذا ما ذكره الدكتور عباس الجراري قائلا: “إن ثقافة الصحراء كانت دائما ثقافة تواصل؛ حيث نجد العلماء والأدباء الصحراويين يتوافدون على أقاليم الشمال إما للدراسة أو للتدريس وإما للاتصال بالملوك قصد مدحهم أو الكتابة لهم”اهـ.
وعن تواصل الأسر يقول في الكتاب نفسه: “دون أن ننسى تواصل الأسر والأنساب حيث نجد لكل أسرة عريقة وشريفة في الصحراء أصلا أو فرعا في المغرب أو في موريتانيا؛ ومن خير الأمثلة على ذلك العروسيون، فهم ينتمون إلى الشيخ سيدي أحمد العروسي المدفون في ناحية السمارة وكان مقيما من قبل في مراكش، وكذلك قبائل الرقيبات، وهي تشكل نسبة كبيرة من سكان الصحراء”اهـ
قلت: إذا كانت الروايات التاريخية لا تتفق على وصول العرب الفاتحين الأوائل إلى سوس حسب قول الدكتور حجي وكان كلام كل من ياقوت الحموي وابن خلدون غير واضح في تعيين المراد من السوس الأقصى والصحراء؛ فإن كلام الدكتور حجي والدكتور الجراري يدل دلالة واضحة على التحام الأسر في الشمال والجنوب وعلى الاتصال الثقافي بين أجزاء المغرب الكبير في مختلف العصور الإسلامية وذلك بقطع النظر عن تحديد تاريخ الفتح الإسلامي لهذا الإقليم.
ولعل الذي يفيدنا أن قبائل الصحراء اعتنقت الإسلام قبل القرن الخامس الهجري؛ هو قصة الأمير يحيى ابن إبراهيم الكدالي الواردة في كتاب “الاستقصا” ، وخلاصة هذه القصة أن الأمير يحيى المذكور بعد رجوعه من أداء فريضة الحج اتصل بالشيخ أبي عمران الفاسي في مدينة القيروان وطلب منه أن يساعده ببعض تلامذته مرشدا لقبائل الصحراء، ولما امتنع تلامذة الشيخ من الذهاب إلى الصحراء زوده برسالة إلى أحد تلامذته ببلاد سوس وهذا التلميذ هو الشيخ محمد وكاك بن زلو اللمطي، ثم إن الشيخ وكاك هذا هو الذي انتخب أحد تلامذته للذهاب مع الأمير يحيى إلى الصحراء، وهذا التلميذ هو الشيخ عبد الله بن ياسين الجزولي السوسي مؤسس الدولة المرابطية من شباب الصحراء، ومعنى ذلك أن سكان الصحراء كانوا يعرفون الإسلام قبل حركة المرابطين، وحركة المرابطين إنما هذبتهم ووحدت صفوفهم وأذكت في نفوسهم روح الجهاد.
هذا وقد تحدث عن مدلول الصحراء كل من الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي والشيخ محمد الإمام بن الشيخ ماء العينين وأثبت كل منهما أن بلاد شنقيط جزء من المغرب؛ ذلك لأن بلاد شنقيط اسم مرادف لاسم الصحراء الغربية، وأن هناك من ينكر أن شنقيط من المغرب كما أن هناك من يزعم أن شنقيط من السودان؛ فالاستعمار الإسباني ينكر أن يكون شنقيط من المغرب، كما أن بعض الجزائريين بالمدينة المنورة يزعم أن شنقيط من السودان.
لكن الشيخ محمدا الإمام دافع عن مغربية شنقيط في رسالته “الجأش الربيط ص:1″، ومثله الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي في كتابه “الوسيط في تراجم أدباء شنقيط ص423”.