وهمية الصراع بين العلم والدين في البيئة الإسلامية -الحلقة الأخيرة- أبو الفضل حسن فاضلي

كلُّ ما يُسعِد البشريةَ، ويُحسِن إلى الحيوان، ويحافظ على الطبيعة هو مِن أكبر مقاصِد الإسلام، فالوسائلُ التي توصل إلى هذه الغايات هي مِن صميمِ الإسلام كذلك، حتى وإنْ كانتْ جديدة مستحدثة لم تعرِف القرون الأولى شيئًا عنها، وهذه صورة واضحة مِن صور شموليَّة وعالمية الإسلام؛ ولذلك فـ”الذين يفهمون الإسلامَ حقَّ الفَهْم يُرحِّبون بكلِّ جديد لا يعارض العقيدة، ولا تُخْشَى منه مفسدة، ولا أظن شيئًا يفيد المجتمع الإسلامي، يكون مخالفًا للدين المبني على إسعادِ العباد”[1].

وهذا هو المقصودُ بعالمية الإسلام، فهو مسايرٌ للتاريخ، بل التاريخ هو المساير له، وموافق لكلِّ التغيرات والتطورات التي يعرِفها الكون والعالَم، وهو كذلك دِينٌ يتميَّز بالشمولية؛ أي: هو شامل للمجتمع وللأُسرة، وشامل للفرْد بمادته ورُوحه؛ ولذلك كان الدِّين هو فطرةَ الإنسان، فبقدر شموله “لجميع ما يكبح النفسَ الإنسانية، ويحجزها عن أن تزيغَ عن الفِطرة السويَّة العادِلة، وبقدْر تغلغله إلى أغوار النفس تغلغلاً يجعل صاحبَها قادرًا على ضبْط الأهواء الجائِرة، ومريدًا لهذا الضبْط؛ بقدْر هذا الشمول وهذا التغلغُل في بنيان الإنسان؛ تكون قوَّة العواصم التي تعصِم صاحبَها من كلِّ عيب قادح”[2].
ولذلك قُلْنا من قبل: إنَّ المجتمعات التي أبعدتِ الدينَ عن حياتها وأقصَتْه نهائيًّا -كما هو حال الغرْب- أو جزئيًّا -كما هو حال الدول العربية- أصابها الفقرُ والفاقة في أخلاقِها وفي سلوكها ومعاملاتها، وفي علاقاتها الاجتماعيَّة والفرديَّة، وأصابها الكسل والخمول في حرَكاتها وتفاعلاتها، وأصابها الفراغُ والوحدة القاتلان، مما صبَغ عليها الحياةَ بالسواد في كلِّ جوانبها وفي كلِّ مجالاتها، فكان “الإسلام وحْدَه هو المنقِذَ من هذه الأمراض، فهو النِّظام الذي يستطيع أن يحرِّك وجودَ الإنسان بشكلٍ دائم، وأن يجعله يحسُّ بإنسانيته، ويتفاعَل مع كلِّ القِيَم بشكل مستمر، وأن يشغل نفسَه رُوحيًّا، دون أن يدعَه يستسلم للفراغ والكسل.
فبما يملكه مِن برامجَ أخلاقيَّة ورُوحيَّة، وبما يُقدِّمه من نظْرة متفتِّحة على الكون والحياة، بهذا كله -وغيره كثير- يحوِّل إنسانه -فردًا أو جماعة- إلى حرَكة حيَّة متفاعِلة ثائِرة على الانحراف، يملؤها الشوقُ للقِيم الكبرى.
وبهذا وحْده يقضي على الفَراغ، ويدفَع الإنسان في سبيلِ العطاء الدائِم، الذي يقدِّم لكل حضارة عناصرَ الاستمرار والبَقاء؛ ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ [آل عمران: 191 – 193][3].
وبعدَ هذا، يكون عيبًا على مَن يدَّعي العقل، أو حتى مَن ينتمي إلى قبيلة العقلاء، أن ينعتَه بالجمود والقصور، وأن يصفَه بالهامشيَّة واللاانتماء، وأن يصوِّره بالعداء للعِلم وإعمال الفِكر، ثم يطالب بإقصائه وإبعاده، وحصْره داخلَ المسجد، كما أبعِدتْ وأُقصيت النصرانية، وحُصِرت داخل غرفة الكنيسة.
أليس الدِّين الإسلامي هو “الذي أنْقَذ البشرية وأباح لهم التفكيرَ في الملكوت، يومَ كانت الكنيسة تحرِّم على الناس النظرَ وتمعّنَهم في التفكير؟!…
(أليس) هو الذي دقَّ عليهم جرسَه من باب الأندلس، فأنقذَهم من الهمجيَّة، وفتَح أعينهم على حضاراتٍ، ما كانوا ليعرفوها لولا العربُ والمسلمون؟!”[4].
فالتاريخ يؤكِّد أنه لا يُنكر هذا مَن يملك مسكةَ عقل، بل لا ينكره مَن شمَّ رائحة التاريخ في يومٍ من الأيام.
وفي خلاصة هذا البحث أقول: إنَّ الأفكار المتطايرة فوقَ رؤوسنا التي تسلب الحياةَ بُعْدَها الدِّيني، ما هي إلا محاولة لعَلْمَنة ما بقي من صور الإسلام في مجتمعاتنا، بعد أنِ اعتقدت بيقين قاطع أنَّ الإسلام يسير في اتِّجاه معاكس للعِلم والنظر الفكري، هذه الأفكار في حقيقتها وهميَّةٌ وخيالية، حوَّلها دعاةُ التغريب في البلدان العربية الإسلامية إلى حقيقية طبيعية.
وإذا كان الحق ما شهِد به المخالِف، فهذا أ.د/فتزو جوالد، يقول: “ليس الإسلامُ دِينًا فحسبُ، ولكنَّه نِظام سياسي أيضًا، وعلى الرغم مِن أنه ظهَر في العصر الأخير بعضُ أفراد المسلمين ممَّن يصفون أنفسهم بأنهم عصريون، يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتَيْن، فإنَّ صرْح التفكير الإسلامي كله مبنيٌّ على أساس أنَّ الجانبين متلازمانِ لا يمكن أن يُفصَل أحدهما عن الآخَر”[5].
وهذه الحقيقة منه تأكيدٌ على وهميَّة الصِّراع بيْن الدِّين والعِلم، ومِن ثَمَّ تأكيد على وهمية إقْصاء الدِّين عن تدبير أمور السياسة والحياة والاقتصاد، و…، والله أعلم.
فمَن أدرَك ذلك وعاه، ومَن فهِمه استرضاه، واللهَ أسال أن يُوفِّقنا لملامسةِ الصَّواب، ومفارقة الزَّلل والخطأ والهوى، وأن يجعلنا من أتْباع السنة ظاهرًا وباطنًا، إنَّه بكلِّ جميل كفيل، وهو حسبنا ونِعم الوكيل.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحْبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- لماذا تأخر المسلمون؟ ص:115.
2- رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص:31.
3- تهافت العلمانية، ص:171.
4- الإسلام دين ودولة ونظام، ص:48.
5- فقه السياسة الشرعية، ص:23.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *