مِن مكارم الأخلاق “صِلْ مَن قَطَعَك، وأَعْطِ مَن حَرَمَك، واعْفُ عمّن ظَلَمَك”

لمكارم الأخلاق مكانة عظيمة، ومنزلة عالية من الدين، بل هي الدين كله، فمكارم الأخلاق تعشقها القلوب، وتهفو إليها النفوس، فهي صفة من صفات الأنبياء والصديقين والصالحين،..بها تنال الدرجات، وترفع المقامات، وقد بعث الله رسوله عليه الصلاة والسلام ليتمم مكارم الأخلاق وصالحها، فكان يدعوا الناس بلسان مقاله، ويدعوهم أيضا بأخلاقه، وكريم فعاله.

خلق كأن الشمس تحسده على *** كرم الطباع وزينة الأوصاف
ضمنت له الدنيا الثناء فكلما *** ذكروه جاد الناس بالإتحاف
فمن رزق الأخلاق الحسنة تعلق قلبه بعلام الغيوب، وفتحت له القلوب، وترأس وساد، وأحبه العباد.
قال عليه الصلاة والسلام: “أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقا” صحيح الجامع.
وقال عليه الصلاة والسلام:” صلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار، يعمرن الديار، ويزدن في الأعمار” صحيح الجامع.
وقال عليه الصلاة والسلام:” إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم” صحيح الجامع.
ومن مكارم الأخلاق التي حث عليها نبينا عليه الصلاة والسلام: صلة الأرحام، وإعطاء المحروم، والعفو عن الظالم.
روى الإمام أحمد في مسنده 4/158 عن عُقبةَ بنِ عامرٍ رضي اللهُ عنه، قال: لقيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: “يا عُقبةُ بنَ عامرٍ! صِلْ مَن قَطَعَك، وأَعْطِ مَن حَرَمَك، واعْفُ عمّن ظَلَمَك” السلسلة الصحيحة.
هذا التوجيهُ النبويُّ الشريفُ مِن أعظمِ التوجيهات، وأجلِّها، وأرفعها؛ ذلكم أنّ فيه إرشاداً لمعالي الأخلاق، وأكمل السَّجايا والصفات..
ولقد أورد الإمام ابنُ كثيرٍ هذا الحديثَ في تفسيره 6/491 في سياق تفسِيرهِ لقولِ اللهِ تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} … [الأعراف:199]
والتقابُلُ في المعنى والمبنى -بين الآية والحديث- ظاهرٌ، حتى في ثلاثِيّةِ التوجيه والأمر:
فَصِلَةُ القاطعِ تُقابَل بالعفو..
وإعطاء المحروم تقابَلُ بالمعروف..
والعفو عن الظالم يُقابَل بالإعراض..
وما أجملَ ما رواه الإمام البخاري في صحيحهِ والأدب المفرد عن وهب بن كيسان، قال: سمعتُ عبد الله بن الزبير يقولُ -على المنبر-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، قال:
“واللهِ! ما أَمَرَ بها أن تُؤْخَذَ إلا مِن أخلاق الناس.
واللهِ! لآخُذُها منهم ما صحبتُهم”.
وقال الإمام ابنُ القيّم في مفتاح دار السعادة (1/344 ): “ليس المرادُ إعراضَه عمّن لا علم عنده؛ فلا يُعلّمه، ولا يُرشده، وإنّما المراد إعراضه عن جهل مَن جهل عليه؛ فلا يُقابله، ولا يُعاتبه”.
وقد ذكر الإمام ابنُ القيّم -أيضاً- في مدارج السالكين (2/305) أنّ هذه الآية “جمعت للنبي -صلى الله عليه وسلم- مكارمَ الأخلاق”.
وقد كشف عن ذلك العلامة السعدي رحمه الله في تفسيره للآية حيث قال: “هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس، أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول وفعل جميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغض طرفه عن نقصهم، ولا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم.
{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي: بكل قول حسن وفعل جميل، وخلق كامل للقريب والبعيد، فاجعل ما يأتي إلى الناس منك، إما تعليم علم، أو حث على خير، من صلة رحم، أو بِرِّ والدين، أو إصلاح بين الناس، أو نصيحة نافعة، أو رأي مصيب، أو معاونة على بر وتقوى، أو زجر عن قبيح، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية أو دنيوية، ولما كان لا بد من أذية الجاهل، أمر اللّه تعالى أن يقابل الجاهل بالإعراض عنه وعدم مقابلته بجهله، فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه، ومن حرمك لا تحرمه، ومن قطعك فَصِلْهُ، ومن ظلمك فاعدل فيه” تيسير الكريم الرحمن 1/ 313.
وقال الإمام اللُّغوي أبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين (ص132): “وأنت ترى أنّ في العفو صلَة القاطعين، والصفح عن الظالمين، وإعطاء المانعين، وفي الأمر بالمعروف تقوى الله، وصِلَة الرحم، وصون اللسان من الكذب، وغضّ الطرف عن الحُرُمات، والتّبرُّؤ من كلّ قبيح..” انظر فضل الله الصمد (1/334).
وحتى لا يكونَ الكلامُ في هذه (الأخلاق) نظريّاً؛ نذكُرُ -ونذكِّرُ- بما جاء عن أبي علي الحسين بن عبد الله الخرقي وقد رأى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، قال: “بت مع أحمد بن حنبل ليلة، فلم أره ينام إلا يبكي إلى الصبح، فقلت: أبا عبد الله! كثر بكاؤك الليلة، فما السبب؟ فقال لي: ذكرت ضرب المعتصم إياي، ومر بي في الدرس: “وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله”، فسجدت، وأحللته من ضربي في السجود”.
وروى الإمام البخاري في صحيحه (4642) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: “قَدِمَ عُييْنة بنُ حِصْن بن حُذيفة، فنزَل على ابن أخيه الحُرِّ بن قَيْس -وكان من النّفر الذين يُدنيهم عُمَرُ- وكان القُرّاءُ أصحابَ مجالسِ عُمر، ومُشاورتَه -كُهُولاً كانوا أو شُبَّاناً-.
فقال عُيَيْنة لابن أخيهِ: يا ابنَ أخي لك وَجهٌ عِنْدَ هذا الأمير، فاستأذِنْ لي عليه، قال: سأستأذِنُ لك عليه.
قال ابنُ عباس: فاستأذَنَ الحُرُّ لعُييْنةَ، فأذِنَ لهُ عمَر، فلمّا دَخلَ عليه، قال: هِيْ يا ابنَ الخطّابِ، فواللهِ ما تُعطينا الجزْلَ، ولا تحكُمُ بيننا بالعدْل!
فَغَضِبَ عُمَرُ حتى همَّ به، فقال له الحُرّ: يا أميرَ المؤمنين! إنّ الله -تعالى- قال لنَبِيّه -صلى الله عليه وسلم-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، وإنَّ هذا من الجاهلين.
واللهِ ما جاوَزَها عُمَرُ حينَ تلاها عليه، وكان وقَّافاً عِنْدَ كِتابِ الله”..
فهل مِن وقّاف؟!
مُلئَ صدرُهُ بالإنصاف؟!
ويفارق الظلمَ والاعتِساف؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *