من السمات البارزة لأهل الباطل في مواجهة أهل الحق التنوع والتلون، وعلى الرغم من ذلك تبقى هناك طرق ووسائل ثابتة للباطل في هذه المواجهة، منذ أن اعتمدها زعيم أهل الباطل إبليس، يوم خرج عن طاعة ربه عز وجل واتخذ عداوة بني آدم شرعة ومنهاجا.
وكثرة المهرجانات والمواسم وما تحفل به من موبقات وقذارات بهيمية، تبين أن من وسائل الباطل الثابتة على مدى العصور، إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا بكل الوسائل القديمة المعروفة والمستحدثة المخترعة.
إن مواجهة أصحاب الحق بالقوة ليست مضمونة النتيجة في كثير من الأحوال، لذا لا بد من إيجاد وسيلة تخدر أدمغة بعض دعاة الحق وتشغلهم عن المواجهة الحقيقية والاستعداد لها.
وهذا السلاح الذي يستخدمه دعاة الباطل -إشاعة الفاحشة- قد حذر منه الله عز وجل تحذيرا خالدا على مر الأزمان والعصور في نصيحته لكل البشرية: “يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا”.
قال ابن السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: “يقول تعالى، محذرا لبني آدم أن يفعل بهم الشيطان كما فعل بأبيهم: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) بأن يزين لكم العصيان، ويدعوكم إليه، ويرغبكم فيه، فتنقادون له (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) وأنزلهما من المحل العالي إلى أنزل منه، فأنتم يريد أن يفعل بكم كذلك، ولا يألو جهده عنكم، حتى يفتنكم إن استطاع، فعليكم أن تجعلوا الحذر منه في بالكم، وأن تلبسوا لأْمَةَ الحرب بينكم وبيْنه، وأن لا تغفُلوا عن المواضع التي يدخل منها إليكم.
فـ(إِنَّهُ) يراقبكم على الدوام، و(يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) من شياطين الجن (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ، إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) فعدم الإيمان هو الموجب لعقد الولاية بين الإنسان والشيطان” تيسير كريم الرحمن.
إن هذه الوسيلة ثابتة في المنهج الإبليسي، يستعملها إبليس وأولياؤه، فهاهم قوم لوط جاؤوا بفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين، وما اكتفوا بذلك بل قاموا بإشاعتها وبالافتخار بفعلها حتى صُبِّحُوا بـ “حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ”.
والتاريخ خير شاهد على أن هذا السلاح، ظهير للباطل في مواجهة الحق، مع اختلاف المنفذ والقائم عليه.
كما هو الحال بالنسبة لكعب بن الأشرف، وهو رجل من اليهود وأمه من بني النضير، وكان شديد الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يشبب في أشعاره بنساء الصحابة.
فهذا اليهودي كان يقود حربا شعرية إعلامية على الإسلام وأهله، تظهر مدى انحرافه الجنسي، مما يدل أن هذا المسلك في الإفساد كان ولا يزال من طرق اليهود التي استخدموها قبل النبي صلى الله عليه وسلم وفي عصره وبعده إلى يوم الناس هذا.
فما قام به كعب هذا كان في زمن بدائية وسائل الإعلام، أما اليوم مع هذه الطفرة المعلوماتية والإلكترونية، فمعظم وسائل الإعلام وما تتنجه من برامج وأفلام إباحية لها صلة قوية باليهود، فـ”أكثر من 50% من وسائل الإعلام في العالم في ملك اليهود، وما بين 80 إلى 90% من الإعلانات التي تقدم في هذه الوسائل من البرامج أو الأفلام تقوم أساسًا على إثارة الغرائز والجنس والنساء”.
إلا أن المسلك الجنسي في إفساد المسلمين ليس حكرا على المفسدين من اليهود بل يشترك معهم في ذلك المنافقون من هذه الأمة، فهذا شيخ المنافقين عبد الله بن أُبي بن سلول لا يتورع زمن النبي صلى الله عليه وسلم في القيام بمحاولته الخسيسة في إشاعة الفاحشة في الذين ءامنوا من خلال حادثة الإفك الشهيرة، التي اتهم فيها أم المؤمنين الطاهرة عائشة رضي الله عنها بنت الصديق في عرضها وعفتها، مما أهله لكي يحتل مشيخة النفاق، فيستحق بذلك العذاب في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”.
قال ابن السعدي رحمه الله: “(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) أي: الأمور الشنيعة المستقبحة المستعظمة، فيحبون أن تشتهر الفاحشة (فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: موجع للقلب والبدن، وذلك لغشه لإخوانه المسلمين، ومحبة الشر لهم، وجراءته على أعراضهم، فإذا كان هذا الوعيد، لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة، واستحلاء ذلك بالقلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك، من إظهاره، ونقله؟ وسواء كانت الفاحشة، صادرة أو غير صادرة” تيسير كريم الرحمن.
ومع التقدم التقني الحديث صارت حرب إشاعة الفاحشة أشد ضراوة وفتكا، وأكثر تطورًا وتأثيرا، فمع ظهور وانتشار التلفاز والسينما دأب العلمانيون وتجار الشهوات على نشر الرذيلة، وتجميلها من خلال الإعلام، وما يقدمونه من أفلام تُهَوِّن من شأن التبرج والزنا وشرب الخمور، وما ينظمون من مهرجانات ومسابقات يطلقون عليها اسم تلفزيون الواقع تجعل كل هذه الفواحش من الأمور المعتادة.
ومع انتشار الفضائيات صارت “الكليبات” العارية هي السمة البارزة لكثير من القنوات، الشيء الذي أثر سلبا على سلوك الشباب والشابات وغيَّر قناعاتهم حول مقومات هويتهم، وخير دليل على ذلك نوع لباس الفتيان والفتيات اللذين يجوبون الطرقات والشوارع بأزياء لا تلبس إلا في غرف النوم والحمامات.
إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في صفوف المسلمين إنما يريدون تبديل القناعة وترقيق الديانة حتى يتحرر الناس من قيود الدين، فيصيرون هملا يرعى كلما يقدمه له تجار الشهوة وصناع اللذة، فالذي يجوب شوارع المدن الكبرى بالمملكة يلاحظ أن العلامات التجارية الكبرى قد غزت البلاد وما إقدام أصحابها على الاستثمار في بلاد كالمغرب إلا ليقينهم أن قناعات أبنائنا وأذواقهم في الاستهلاك قد أصبحت تبعا لما تنتجه دور الأزياء ولو كان مخالفا لمقومات الدين والهوية والتقاليد والأعراف، وأصبحا أمام غزو مكشوف شعاره: “عرِّهم حتى تقتل الدين فيهم”، وفي الحديث: “الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر”.
إن ثقافة العري الغربية والمروجين لها يريدون منا أن نصبح قومَ لوطٍ آخرين نأتي المنكر في نوادينا علانية، فهم يشعرون بالضيق إذا رأوا مظاهر العفة سائدة في المجتمع، إنهم -لا شك- يستمتعون –بل ويستفيدون- من إشاعة الفاحشة في الذين ءامنوا، و”هدفهم الأسمى أن يهدم بنيان المجتمع المسلم، لأنهم فهموا جيدًا أنَّ مَن يريد تقويض أركان مجتمع ما استعصى على الهزيمة والتغيير؛ فعليه أن يهدم حصن الأخلاق والعفة فيه”، فقد عبَّر أحد رؤوس الاحتلال عندما استعصى عليه إخضاع قلوب الرجال المسلمين لسلطان الآلة العسكرية قائلا: ” كأس وغانية يفعلان بأمة الإسلام أكثر مما يفعله ألف مدفع”، فالكأس قد عمت البلاد، والغواني في المقدمة قبل العلماء، فلا نعجب من هذا الانحطاط وهذا الانحدار إلى هاوية التخلف والتبعية.