وضعية المعمرين الأجانب بفاس أثناء المرحلة الأولى من الثورة الأستاذ إدريس كرم

تبين للمعمرين الأجانب بعد معركة 26 مارس حجم التهديد الذي يمكن أن يتعرضوا له، وقد سبق أن نصحت مواطني المتزوجين بالتوجه إلى طنجة، زملائي الإنجليز قبلوا نصيحتي واقترحوا على من أرادوا المغادرة أن يقوموا بذلك فرادى مخفورين من قبل فرسان اولاد عيسى أو اولاد جامع حتى يجتازوا سهل الغرب دون إثارة انتباه القبائل، لكن أغلبهم رفضوا المغادرة وترك محلاتهم، بيد أن الحالة تفاقمت وصار من المستحيل المغادرة بعد معركة 26 مارس 1911.
استدعيت مجموع القناصل لبحث ما يمكن عمله لحماية المعمرين الأجانب، زميلنا الألماني لم يستجب للدعوة كعادته، حيث كان يتغيب عن اجتماعاتنا إلا نادرا، وقد أجمع كل القناصل على استحالة التنقل إلى طنجة جماعة في قافلة، لأن ذلك سيثير انتباه القبائل الذين سيعتبرون أن الأجانب فقدوا حماية السلطان، مما يعرضهم للأسر أو القتل إذا ما تحركوا على الشاكلة السالف ذكرها.
أياما بعد نصيحتي ارتد اولاد جامع وانضموا للثورة، مما جعل كل حركة أو عمل أو اتصال مستحيلا بين فاس والساحل، وقد اتفق على نصح الأوربيين بالتقليل من الظهور جماعات حتى لا يثيروا الرأي العام، ومغادرة الساكنين منهم في أحياء منعزلة والسكن مع مواطنيهم الموجودين في أماكن آمنة.
مند اندلاع الثورة إلى بداية شهر مارس وأثناءه لم يكن عند السكان إحساس بالعداء للأوربيين في المدينة، فكان مواطنونا بخلاف تقريري عن القبائل، لكن قلقي ازداد من موقفهم الذي تغير كثيرا بعد فشل مفاوضات لمتوكي ومعركة مارس، فقد بدأ الخطر يزداد مع فقدان العمال أعمالهم، وإغلاق المنشآت الإنتاجية والمحلات التجارية، وانقطاع المواصلات بسبب الحصار الذي شارك فيه اولاد جامع، وانعدم تصدير المنتجات المصنوعة كالمنسوجات والأحذية والنحاس والجلد، وارتفعت أسعار المعيشة بسبب ندرة المواد الغذائية وقلة المشترين، وذلك بدء من شهر أبريل تاريخ ارتداد اولاد جامع عن دعم المخزن.
لقد أدى تهاون المخزن إلى تردي الوضعية واستفحال خطورتها، السلطان في جفوة مع الوزير الكبير، ولم يعد معه من المقربين سوى الطيب المقري، رجل شاب ذكي، لكن متراخ ودون حيوية، كما أن الباشا تنقصه الحيوية أيضا، ملازم داره لا يبرحها تاركا المدينة لحالها، ابتعاد الوزير الكبير عن السلطان سببه الغيرة، وكذلك الأمر بالنسبة للموظفين الكبار.
سكان المدينة صاروا خائفين من وقوع فتنة بدأ التخطيط لها منذ شهر مارس في أفق الإطاحة بمولاي عبد الحفيظ، وتعيين شيخ الربيع الذي أعرفه شخصيا، وذلك بموافقة المتآمرين، الذين يتوفرون على فرصة للإخلال بالنظام في المدينة وتعريض الأوربيين للخطر، وقد فكر عدد من الأصدقاء بأن السلطان إذا لم يتلق دعما من الخارج فإن الثورة ستضمن سلامتنا لأننا أغرينا البربر بالدخول إلى المدينة.
الخطر محدد في هيجان القاعدة الشعبية من ساكنة المدينة، وكيفما كان الأمر فالكل ينتظر ماذا سيحدث عندما ينادي السلطان محلة بريموند للعودة إلى فاس، زملائي متشائمون منذ بضعة أيام مما سيأتي من صعاب، المتفائلون يرون أن رجوع المحلة سيتبعه عودة اولاد جامع للطاعة، مما يجعل مغادرة الأوربيين لفاس ممكنة، زميلي الألماني يرى أن القبائل تعبت من الصراع، وستنهي ثورتها بعد عودة بريموند إلى العاصمة.
المناداة بمولاي الزين في مكناس سلطانا
بعد ارتداد اولاد جامع تم إحكام محاصرة فاس من كافة الجهات، معسكر بني امطير وعرب سايس ملازمون راس الما، اولاد جامع واشراكة تموقعوا على ربوة سيدي احمد البرنوصي على بعد خمسة كلومترات شمال المدينة، آيت يوسي عسكروا في عين السمار على طريق صفرو، عدد المعسكرات يتضاعف يوم المعركة عن طريق قدوم ساكنة الدواوير المجاورة التي لا تكون في المعسكرات.
بعد معركة 13 أبريل القليلة الأهمية لم تقع أية معركة حقيقية في المدينة، إلى أن قدم كولون بريموند فاقتصر الثوار على اعتراض سبيل المواصلات بصرامة، ذلك أن رؤساء القبائل ذهبوا إلى مكناس من أجل المناداة بسلطان جديد هو مولاي الزين، وكما سبق أن فصلت ذلك في رسائلي السابقة فقد تعرضت متاجر مكناس للنهب بالرغم من وعود البربر بحماية المدينة لأنهم عجزوا عن التحكم في رجالهم.
مع أن مولاي الزين ليس متعصبا إلا أنه أعلن الحرب المقدسة، رضوخا لشروط الثوار الذين نصبوه سلطانا، مما يعني أنه سيكون لعبة في أيديهم. بعد التنصيب توقف النهب شيئا فشيئا بالمدينة، لكن البربر استمروا في طلب الفدية من كل حي، كما أرادوا احتجاز الأمريكي المسن الذي كان مع أسرته الأوربي الوحيد القاطن بالمدينة، لكنه بقي مختبئا حتى دخلت القوات الفرنسية مكناس، وقتها ظهر وشكر جيرانه الذين أقنعوا الثوار بالسماح له وأسرته بمغادرة المدينة بسلام.
رجوع كولون بريموند والسلطان يطلب رسميا مساعدة القوات الفرنسية
دخل كولون بريموند فاس في 26 أبريل، وقد تعرض للهجوم منذ أن تحرك من معسكره قاصدا فاس من طرف القبائل بعنف شديد، وقد وصف بمحلة النصارى، وفوجئ جنود السلطان بأن خصومهم يقاتلونهم باسم الحرب المقدسة.
القوات الشريفة تحركت نحو فاس دون انتظار التموين من طنجة، الكومندار بريموند كان مجردا تقريبا من ذخيرة المدفعية لأنه كان محتاجا للمدفعية قصد السيطرة على فاس بقوة النيران، ومن جهة أخرى قواته لم تحض براحة بعد المجهود الذي بذلته، فمن الصعب أن تقطع من جديد نفس المسافة عكسا لمرافقة السلطان والأوربيين من فاس إلى الساحل.
بدون تدخل خارجي فإن المخزن سيضيع، لذلك ابتداء من نهاية مارس تحدث لي السلطان والمقري عن احتمال طلبه مساعدة عسكرية من القوات الفرنسية معتقدا أن الحكومة الفرنسية قد لا تقبله، بيد أني لم أشجع هذا التوجه، بعد ذلك بقليل وفي 10 أبريل قام السلطان بتقديم طلب للحكومة الفرنسية قصد المساعدة على بعث حركة الشاوية إلى فاس، فبدأنا نتباحث في الشكل الذي ستتم به الاستجابة للطلب، فلم يكن هناك إلا أن يتم تجميع القبائل تحت إمرة الشريف لمراني، لكني أعتقد أن الحكومة الفرنسية بإمكانها تقديم الدعم بكوم الشاوية.
في تلك الأثناء تسارعت الأحداث منذ 10 أبريل، خاصة بعد مبايعة مولاي الزين وإعلانه الحرب المقدسة، وانتشار العصيان والخروج عن الطاعة من قبل قبائل مخزنية خاضعة للمخزن بسبب ذلك الإعلان، من جهة أخرى علمنا عن طريق بريموند أن كركة مراكش لن توفر سوى ما بين 600 و700 رجل موجودين بالرباط منذ شهرين تقريبا ينتظرون التوجه إلى فاس، وهم في حالة سيئة بحيث شرعوا في بيع خيولهم وسلاحهم ومعيشتهم، وكان من المتوقع أن يُعزَّزوا بمتطوعين من الشاوية، لكن الجميع بقي في الرباط إلى غاية 27 أبريل الذي زاد ثقة في الدعم الفرنسي الذي ستقدمه له الحكومة الفرنسية بعد تفويض رسمي بدعم القوات الفرنسية للمخزن.
الإجراءات العسكرية المتخذة بعد عودة كولون بريموند
في الوقت الذي عاد فيه بريموند صرنا عازمين على توسيع عرقلة هجمات معسكر راس الما الأكثر أهمية، لكن في غضون يومين أو ثلاثة كان علينا معرفة هل بالإمكان وضع هذا المخطط موضع التنفيذ، وذلك للأسباب التالية:
القوات النظامية لبريموند التي نكونها توجد في علاقة مع سكان المدينة والقوات غير النظامية لمحلة بن الجيلالي بدأت تحتج، وأصبحت في حالة ذهنية سيئة حيث بدأت تصفي حسابها مع المخزن المحبط الذي لم يرد أن يتفهم بأنه لا يمكن له مواصلة الصراع في هذه الأوضاع المضطربة، فبدأت تظهر فيها تمردات وهروب من الخدمة.
من جهة أخرى تم تدبير مؤامرة في الليل قبل أن نعسكر بين قيادة القوات النظامية والثوار، هؤلاء الأخيرون حملوا النظاميين تخليهم وارتدادهم هاربين بعدما رأوا آمالهم ضاعت، ومنهم بعض القياد خاصة بن الجيلالي الذي وعد بأن ينتهز أول فرصة للانتقال عند الأعداء.
في هذا الإطار ينتظر أن يبتعدوا عن المدينة لأن النظاميين لا يمكن أن يقاتلوا دون أن يكونوا في حماية المدفعية من المحاور، لأنهم يخافون أن يتحول غير النظاميين ضدهم. منجان مصمم على أن يبقى في حالة دفاع من أجل تثبيت وإقرار النظام، ومنع الارتداد والتوافق مع الأعداء؛ المدربون تفاهموا مع قوات معسكر النظاميين داخل أسوار قصبة اشراردة؛ وسهل المصلى وضع غير النظاميين في مجال يصعب عليهم التراجع منه؛ طابوران احتلا شمال وجنوب المدينة؛ فصيلة مدفعية وضعت في باب فتوح للدفاع عن شرق المدينة.
بصرف النظر عن العسكر النظامي وضع المخزن في خدمته متطوعي لحياينة، هؤلاء قدِموا إلى فاس في نفس الوقت الذي قدم فيه بنو وراين بعدما تم إعطاؤهم أجورا مغرية.
بيد أن الفتنة قد لاءمتهم مثل السابقين فصاروا ينهبون أحيانا المتاجر ويسلبون المارة؛ المدربون الفرنسيون ارتدوا ملابس الأهالي لتفادي عدائهم، وقد أخذ هؤلاء القادمون يتآمرون مع الثوار، وفي المعارك يمتنعون عن السير أو يفرغون سلاحهم في الهواء، وهم لا يخفون شعورهم بالضجر من إخفاق المخزن إذا لم يعطهم نقودا أو أسلحة وذخيرة، تراهم في كل وقت يأتون إلى دار المخزن للإبلاغ عن ضياع السلاح أو الذخيرة، في حين ترى الأعين أن صناديق الذخيرة تباع للثوار أمام أنظار الجميع، ولا من يعترض.
يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *