التمذهب حكمه وحقيقته وشروطه رشيد مومن الإدريسي

معرفة الفقه ودراسته عبر مذهب من المذاهب المتبوعة جادة مسلوكة ومطروقة عند عامة المتفقه وأهل العلم بعد شهرة هذه المذاهب وقيامها.

قال العلامة الألباني رحمه الله: “إن الانتساب إلى أحد من الأئمة كوسيلة للتعرف على ما قد يفوت طالب العلم من الفقه بالكتاب والسنة أمر لا بد منه شرعا وقدرا، فإن ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب، وعلى هذا جرى السلف والخلف جميعا..” كشف النقاب 52.
وقال رحمه الله تعالى: “الواجب على الناس في زماننا هذا أن يبدؤوا تعلم الفقه عن طريق أحد المذاهب الأربعة ويدرسوا الدين من كتبها..” بدع التعصب المذهبي محمد عيد عباسي 1/339.
فهذه المذاهب لم تقَم إلا للتضلع من الفقه والتزيد من المعرفة فيه بتشقيق المسائل وتفريع الدلائل، وحصر كل باب، وترتيب الأبواب ترتيبا تفهم به المسائل الفقهية عموما.
وهذا المسلك هو المعروف عند أهل الشأن بـ”التمذهب” وهو طريقة للتفقه لا غاية، ووسيلة لفهم النصوص وليس دينا بديلا عنها فتنبه.
ولذلك كانت هذه المذاهب في ذاتها عموما نعمة ومنة من الله تعالى(1).
قال ابن رجب رحمه الله: “فاقتضت حكمة الله سبحانه أن ضبط الدين وحفظه بأن نصَّب للناس أئمة مجتمعا على علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى..، وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم حتى ضبط مذهب كل إمام..
وكان ذلك من لطف الله بعباده المؤمنين، ومن جملة عوائده الحسنة في حفظ هذا الدين” الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة 24-25.
وقد تكونت عدة مذاهب آلت إلى أربعة مشهورة لأئمة متفق على علمهم وتقواهم وهم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد رحمهم الله.
كما أجمع العلماء على جواز تقليد أحد هذه المذاهب.
يقول ولي الله الدهلوي رحمه الله في كل من كتابه الإنصاف 53 وحجة الله البالغة 1/132 ما نصه: “إن هذه المذاهب الأربعة المحررة قد اجتمعت الأمة أو من يعتد به منها على جواز تقليدها(2) إلى يومنا هذا”.
وكلامنا إن شاء الله تعالى في هذا الرحاب متوجه إلى الحديث عن المذهب المالكي لما له من الشأن العظيم والمكانة الرفيعة عند أهل العلم.
فهذا شيخ الإسلام رحمه الله يقول: “من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد” صحة أصول مذهب أهل المدينة 61.
وقال الإمام الذهبي رحمه الله في معرض تلخيصه لفضائل الإمام مالك: “وقد اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره:
أحدها: طول العمر وعلو الرواية.
وثانيها: الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم.
وثالثها: إتفاق الأئمة على أنه حجة صحيح الرواية.
ورابعتها: تجمعهم على دينه وعدالته واتباعه السنن.
وخامستها: تقدمه في الفقه والفنون وصحة قواعده” تذكرة الحفاظ 1/212.
وقولنا: المذهب المالكي هذا نسبة إلى الإمام مالك رحمه الله أصالة، بحيث إذا قلنا مثلا إن الحافظ ابن عبد البر رحمه الله كان مالكيا كنوع من التراتيب العلمية فمعناه أنه جملة على أصول وقواعد الإمام مالك في الاستدلال.
قال ابن قدامة رحمه الله: “وأما النسبة إلى إمام في الفروع كالطوائف الأربعة فليس بمذموم(3)..” لمعة الاعتقاد 190.
وليعلم أن المعايير المنضبطة التي قررها أهل العلم لاختيار(4) مذهب من المذاهب كمسلك للتفقه متحقق في المذهب المالكي وهي كالآتي:
أولها: كون صاحب المذهب مجتهدا مستقلا ومن هؤلاء إمام المذهب المالكي كما لا يخفى.
قال السيوطي رحمه الله: “الاجتهاد المطلق قسمان: مستقل وغير مستقل.
والمستقل هو الذي استقل بقواعده لنفسه يبني عليها الفقه خارجا عن قواعد المذاهب المقررة، كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل” الرد على من أخلد إلى الأرض 112.
ثانيها: أن يكون المذهب من حيث هو كذلك محفوظا ومنضبطا عموما، ولذلك قال ابن رجب رحمه الله في معرض الكلام عن المنع من اتباع غير المذاهب الأربعة من جهة مسلك التمذهب(5) كطريق للتفقه: “علة المنع من ذلك وهو أن مذاهب غير هؤلاء لم تشتهر ولم تنضبط فربما نسب إليهم ما لم يقولوه، أو فهم عنهم ما لم يريدوه، وليس لمذاهبهم من يذبُّ عنها وينبه على ما يقع من الخلل فيها بخلاف هذه المذاهب المشهورة” الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة 29.
والمذهب المالكي قد حضي بلا شك بهذا الشرط.
يقول الحطاب رحمه الله: “..وإنما وقع الإجماع عليها (أي على اعتبار المذاهب الأربعة من جهة مسلك التمذهب) لأنها إنتشرت حتى ظهر فيها تقييد مطلقها وتخصيص عامها وشروط فروعها..” نقلا عن قمع أهل الزيغ والإلحاد 110.
ثالثها: كون المذهب معتبرا عند أهل السنة والفقهاء ومنها كما هو مشهور: المذهب المالكي، ولذا لم يعتد عامة الفقهاء وجمهورهم بمذهب الشيعة.
قال البدر الزركشي رحمه الله: “وخلاف الظاهرية(6) والشيعة غير معتد به” البحر المحيط 3/397.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- وإن كان بعض أتباع المذاهب الفقهية قد أصابهم نوع تعصب وانحراف كما هو واقع كثير من أتباع مذهبنا في زمننا هذا، فهذا لا يوجه الحكم بهدم بناء شامخ استفادت منه الأجيال، فالأصل ثابت والثمار يانعة عموما والتصحيح والنقد لموجبه واجب.
(2)- يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة، ولا يوجبون الاجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد، ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد” الفتاوي 20/203-204.
(3)- فهو مباح إذا قصد به التعريف فحسب، أما إذا كان على وجه التعصب للمذهب فمحرم، أنظر تأصيل ذلك الاقتضاء 71.
(4)- فالترجيح والتفضيل بين المذاهب بذكر الخواص والمزايا بمنطق الحجة والعدل، وبشرط عدم التفرقة والتعصب وإحداث البغضاء، والإزراء على المفضول فلا ضير فيه، أنظر الموافقات 4/264.
(5)- فتأمل هذا القيد ذلك لأنه لا بأس باتباع غير الأربعة ممن حفظ مذهبه في تلك المسألة ودوِّن حتى عرفت شروطه وسائر معتبراته كما هو ظاهر من صنيع العلماء وواضح في كتب مذاهب الفقهاء.
(6)- هذا محل نظر وبسط وينظر في ذلك على سبيل المثال ترجمة ابن حزم رحمه الله من سير أعلام النبلاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *