الدعوة والإفتاء من غلو الإفراط إلى جفاء التفريط (الحسين أيت بلعيد نموذجا) حمّاد القباج

إن صيانة الفتوى من العبث واجب شرعي يتأكد في زماننا أكثر من أي وقت مضى.
ونلاحظ في السياسة العامة للقيمين الدينيين توجها نحو ما يرونه صيانة للدعوة الإسلامية عموما والفتوى خاصة من تطرف الإفراط والغلو، وهذا سعي مشكور إذا أُتِي بيتُه من بابه.
إلا أننا نلاحظ -في المقابل- إغفالا كاملا لصيانتهما من تطرف التفريط والتمييع، كما نلاحظ تساهلا مريبا مع التوجهات العلمانية التي تسعى حثيثا لتمييع الدين وتحريفه.
وقد أضحت هذه ظاهرة برزت ملامحها في الإعلام المرئي، سيما في القناتين الأولى والثانية، كما تفشت في باقي المجالات الإعلامية، والمقررات الدراسية، وغيرها.
وهذا توجه انتقائي يهدف إلى فرض تصور قاصر للتدين، وضبط مقصر لمجال الفتوى، ومن أسبابه سعي العلمانيين والمستغربين لتوجيه حركة التدين والتحكم فيها وفرض نمط تدين يتناسب مع المبادئ العلمانية.
وقد قام هذا التوجه على أصول منها: التأويل الباطل والتحايل الممنوع والتلفيق غير المشروع وتتبع رخص المذاهب:
روى ابن عبد البر عن سليمان التيمي قال: “لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله”اهـ
قال الشاطبي في الموافقات: “لا خلاف بين المسلمين أنه لا يجوز ولا يسوغ لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه وسخطه من سخطه، …ولا يجوز له أن يفتي بما يشتهي، أو يفتي زيدا بما لا يفتي به عمرا لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الأغراض” اهـ
وفي الحديث المشهور: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله؛ ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين”.
وهكذا فقد انتشرت بسبب ذلك التوجه محاذير شرعية كثيرة؛ تضمنت تحليل المحرم، وتحريم المباح أو تقييده بالرأي المجرد، وإسقاط الشرط الشرعي .. إلـخ
ويمكن أن نمثل لذلك بالمنهجية التي يسير عليها الدكتور الحسين أيت بلعيد؛ الذي أشهرته القناة الثانية منذ حوالي أربع سنوات، وقدمته للمغاربة على أنه العالم النموذجي الذي يحلق لحيته ويرتاد المقاهي ويصافح النساء .. إلـخ
والمتتبع لفتاواه يلاحظ فيها الانحرافات التالية:
1- تمييع الدين باسم التيسير.
2- الفرار من الأسئلة الصريحة في محرمات ظاهرة.
3- الدعوة إلى سلوك ديني منحرف.
وهذه المقالة لا تستوعب البسط في التمثيل، وإنما أذكر من ذلك آخر فتاويه الغريبة المريبة:
قال: (مشاهدة الأفلام الإباحية إن كان لنا ضمانات على أنها لن تؤدي العلاقة الزوجية، فمرحبا)!
وأكد هذا الحكم بقوله: (إذا كانا يشاهدان الأفلام سوية، ويبقى ذلك سرا بينهما، ولا يخرج عن نطاق غرفة النوم ولا يحدث انحرافا جنسيا فأهلا وسهلا، لكن ليس هناك ضمانات في هذا الاتجاه!![أسبوعية الأحداث المغربية ع.21 / 25 يونيو 2009]
وهذا من الهراء والتلاعب بالدين الذي لا يرضاه إنسان صالح فضلا عن عالم.
ولو كانت ثمة رقابة شرعية لما سمح بنشر هذا الكلام السفيه ليقرأه عموم الناس؛ فكيف يبيح عاقل مشاهدة الزوجين حيوانات البشر ينزو بعضها على بعض بشرط سلامة الزوجين من الانحراف الجنسي، (يعني أن تلك المشاهدات قد تورث ثورة جنسية تؤدي الزوجين).
فليت شعري أين مناطات التحريم الأخرى؟
أين وجوب غض البصر؟
أين وجوب صيانة القلوب والنفوس مما يمرضها؟
أين وجوب النهي عن المنكر بأضعف الإيمان، وهو التغيير بالقلب، الذي يعني كراهية المنكر وأهله؟
أين وجوب مقاطعة الفجرة وأشباه الأنعام؟
فهل نلغي هذه الأحكام كلها إذا أمن الزوجان الانحراف الجنسي؟
إن خطورة التمييع والتساهل على الدين لا تقل أبدا عن خطورة الغلو والتنطع، بل إن الأولى أخطر لأنها توافق هوى النفس الأمارة بالسوء، بخلاف الثانية فإن الغلو ممجوج فطرة وطبيعة، وإنما يتكلفه صاحبه لظروف طارئة تخرجه عن فطرته واعتداله.
وهنا أجدني مضطرا لطرح التساؤلات التالية:
من يهمه التمكين لمثل هذا (المفتي)؟
لماذا تتهافت المجلات والصحف وغيرها على هذا (المفتي)؟
ألا يدل هذا على وجود توجه مريض يريد أن يحرف الدين باسم التيسير؟
أين تحرك المجلس العلمي الأعلى ووزارتي الأوقاف والداخلية لصيانة الأمن الروحي والسكينة والأخلاق العامة لدى المغاربة؟
وأخيرا؛ أين الخلف العدول الذين ينفون عن هذا الدين تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الجاهلين؟ …
روى ابن عبد البر وابن الجوزي وغيرهما عن مالك قال: “أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة وهو يبكي فقال: ما يبكيك؟ أدخلت عليك مصيبة؟ فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم”.
قال ابن الجوزي: “هذا قول ربيعة والتابعون متوافرون، فكيف لو عاين زماننا هذا؟ وإنما يتجرأ على الفتوى من ليس بعالم لقلة دينه”.
قال ابن الصلاح: “رحم الله ربيعة؛ كيف لو أدرك زماننا”
قال ابن حمدان: “فكيف لو رأى زماننا وإقدام من لا علم عنده على الفتيا مع قلة خبرته وسوء سيرته، وشؤم سريرته، وإنما قصده السمعة والرياء ومماثلة النبلاء والعلماء، ومع هذا فهم يُنهون فلا ينتهون، وينبهون فلا ينتبهون، قد أملى لهم بانعكاف الجهال عليهم، وتركوا ما لهم في ذلك وما عليهم، فمن أقدم على ما ليس له أهلا من فتيا أو قضاء أو تدريس أثم، فإن أكثر منه وأصر واستمر فسق، ولم يحل قبول قوله ولا فتياه” اهـ
قلت: فكيف لو رأى ربيعة زماننا، وسعي بعض البائعين دينهم بدنيا غيرهم لتحريف الدين وتمييعه باسم تيسيره والترغيب فيه، وكيف لو رأى زمانا تفرض فيه الأعداء على الأمة نوع التدين الذي تختاره، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإنما التيسير في حكم الله، وليس من التيسير في شيء إرضاءُ أهواء الناس وشهواتهم، وحين يرق الدين ويفسد الزمان يظهر الاعتدال تشددا والتوسط تطرفا، وهذه ظاهرة مرضية تعالج ولا تساير، وفساد يصلح ولا يتأول الدين من أجله.
فاتق الله يا حسين، وتذكر ما رواه القاضي عياض في ترتيب المدارك عن مالك أنه كان إذا سئل عن مسألة كأنه واقف بين الجنة والنار. اهـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *