إظهار الافتقار شرط في استجابة الدّعاء عمر خويا

 

 

الدّعاء استجابة لله تعالى، لأنّه اعتراف فعليّ وقوليّ خالص من العبد بضعفه وعجزه، وإقرار منه بقدرة ربّه وفضله، لذلك فهو عبادة عظيمة يحبّها الله منه ويغضب لتركه لها. والدّعاء  بلسم الرّوح، فيه صدق المناجاة، به تفرّج الكربات وتُقضى الحاجات، وتُدفع  السيئات وتُستجلب البركات، ويَبتعد به المؤمن عن اليأس والقنوط والاستسلام لضغوط الحياة.

وللدّعاء شروط معهودة معروفة منها: رفع اليدين والتوجه إلى القبلة وأكل الحلال، والافتتاح بالثّناء على الله عزّ وجلّ والصّلاة على النبيﷺ. لكن من أسراره التي قد تغيب عن كثير من الدّاعين: الانكسار وإظهار الافتقار إلى الله سبحانه.

ويتّضّح المراد من خلال نماذج من سير الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام.

دعا موسى عليه السلام ربّه منكسرا ومفتقرا: “رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ” [القصص:24]. وجاء دعاؤه في سياق حدث قتله غير المقصود للرّجل القبطيّ في مشاجرته للإسرائيلي، حيث فرّ من مصر طريدا خائفا من فرعون وجبروته. ولمّا وصل إلى مدين كان قد أنهكه الجوع والتّعب. وبشهامته وحبّه للخير سقى للمرأتين الشّابّتين قطيع الغنم وسط الزّحام ولم يفقد أدبه، ثم آوى إِلَى الظِّلِّ ليستريح. وفي هذه الحالة من الغربة البؤس والافتقار والشدّة توجّه إلى ربّه: “رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ”، وسرعان ما جاءه الفرج من ربّه النّاصر لأوليائه ” فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ” [القصص:25]، وجاء مع خِطاب المرأة: المأمن والمأكل والمأوى والعمل والزّواج والطّمأنينة والبيئة الطيبة والصّهر الصالح.

وفي أيّوب عليه السلام لمّا بلغ منه المرض والحاجة ونفور الأحبّة والأصحاب، وبلغ منه الضّرّ كلّ مبلغ ومن جميع النواحي عدا ناحية من لا يخيب عنده الرّجاء، دعا ربّه مخلصا في إظهار ذلّه واحتياجه : “رّبِّ إنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ” [الأنبياء:82] ، وكفته شكاية الحال عن السؤال وربّه أعلم به، وجاء الفرج السّريع من الله السّميع “فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ” [الأنبياء:82-83].

ويعقوب عليه السلام قال: “إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ” [يوسف:86] وقد ألمّت به الكربات واشتدت عليه النّوائب؛ والإنسان لمّا تتكالب عليه ألوان ضغوط الحياة الشديدة فلا بدّ أن يشكو، لا بدّ أن يبوح بما في نفسه حتّى يخفّ، وإذا كانت الشكاة لغير الله نوع من الذّل والهوان فلمن تكون الشكاة التي لا ذلّ فيها؟ ومن الذي تُستفرغ عنده الشدّة والكربة ويُشكى إليه الحال؟ إنّ الشّكاية في هذه الحال سؤال ودعاء وإظهار الافتقار لقاضي الحاجات ومفرّج الكربات.

وهذا نوح عليه السلام ينادي ربّه في الكربة العظيمة، وقد همّ قومه بقتله والذين آمنوا معه بعد الحصار والاضطهاد والاستهزاء والمعارضة الشّديدة والطّويلة لدعوته الممتدّة. هنا سجّل القرآن الكريم نداءه الذي عبّر عن افتقاره إلى نصر ربّه “وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ” [الصافات:75]، فعمّ الطوفان الأرض وركبوا في السفينة “وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ” [هود:42] لقد استجاب الله تعالى له “فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ” [الأنبياء:75[ ومَحَق الله الكافرين المستهزئين إلى الأبد.

وفي يونس عليه السلام قال الحقّ سبحانه: “وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا” [الأنبياء:86] يعني لقومه الذين تمرّدوا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ يعني أن لن نضيق، وليس نقدر هنا بمعنى نستطيع، لكن معناه  نضيق في الآية: “فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ” [الفجر:17] أي ضيقه، “فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ” لن نضيق عليه ونبقيه في بطن الحوت، كان حسن الظن بالله موقنا أنه سينجيه، وهذا مهمّ جدّا في الدّعاء، “فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ” ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، وهذه أحوال تجعل قلب المنيب إلى ربّه يظهر افتقاره إليه، ففرّج الله كربته لمّا قال: “لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ” [الأنبياء:86] هذه دعوته وتلك إجابة ربّه: “لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ” [الأنبياء:86، 87[.

أمّا زكريّاء عليه السلام فقد تقدّم به العمر واشتعل رأسه شيبًا وكانت امرأته عاقرًا وبلغ من الكبر عتيّا، يفتقد ولدا يكون معه نبيّا ووليّا يحمل همّ الدّعوة ويكون في قومه مصلحا بعده. لم ييأس ولم يقنط بالرّغم من أنّ المؤشّرات المادّية كلّها تدلّ على أنّه لا أمل في الإنجاب، دعا ودعاؤه ينطق بافتقاره وانكساره: “رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ”” [الأنبياء:88 [. فأسرعت إليه الجواب من ربّه بكشف غمّته “فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ” [الأنبياء:89[.

إنّ هؤلاء الأنبياء عليهم السّلام أظهروا كمال افتقارهم بحسن فعالهم، قال الله تعالى: “إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ” [الأنبياء:89] بمبادرة منهم ودون تلكّأ أو تكاسل، وأظهروا أيضا كمال افتقارهم بحسن توجّههم إلى ربّهم “وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا” حيث يمتزج الخوف بالرّجاء والمحبّة بالوجل في دعائهم “وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ” [الأنبياء:89] وهو السّمة المعبّرة عن الانكسار وكمال العبودية لله عزّ وجلّ. إن الاستجابة تولّد الاستجابة؛ وهي قاعدة عامّة ومقرّرة في الآية الخالدة: “فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي” [البقرة:185].

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *