حقيقــة الصيــام يوسف بن محمد مازي

 

 

(هَا أَنتُمْ هَـٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّـهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم).

كلّفنا الله سبحانه بالعبادات لمصلحتنا وتربيتنا، ولتكون زاداً لنا على طريق الهدى، ومعينة لنا على زيادة إيماننا. يقول الإمام البيضاوي رحمه الله: “إنَّ الاستقراء دلَّ على أنَّ الله سبحانه شرع أحكامه لمصالح العباد” المنهاج:ص233.

فمن أسماء الله تعالى الحكيم. والحكيم هو من اتصف بالحكمة. والحكمة إتقان الأمور ووضعها في موضعها. ومقتضى هذا الإسم من أسمائه تعالى أن كل ما خلقه الله تعالى أو شرعه فهو لحكمة بالغة علمها من علمها أو جهلها من جهلها. فالله سبحانه وتعالى لم يفرض علينا الصيام ويمنعنا عن الطعام والشراب المباح لنا ليعذبنا أو يعنتنا، ولكن الصيام الذي شرعه الله وتعالى وفرضه على عباده له الحكم العظيمة والفوائد الجمة.

إلا أننا اليوم لما أضعنا حكم أحكام التشريع ومنها حكم الصيام. أصبحنا نؤدّي عباداتنا وكأنَّها عادات وتقاليد، ورثناها عن آبائنا؛ فلا نستشعر لذَّة ولا حلاوة، بله الارتقاء بها في سلم الإحسان. ففقدنا روحها وكل معانيها. لما لم تخالط سويداء قلوبنا، فصيَّرتها إلى ما صيَّرتها: (صمٌّ بكم عمي فهم لا يعقلون).

ومن أهم ما يرجع إليه ذلك من أسباب؛ ضعف العلم بمقاصد الأحكام؛ يقول إبن تيمية رحمه الله: “من فهم حكمة الشارع كان هو الفقيهَ حقَّاً” بيان الدليل على بطلان التحليل:ص351.

بل ذهب إلى أبعد من ذلك فقال رحمه الله: “خاصَّة الفقه في الدين… معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها” الفتاوى:11/354.

وفي هذه المقالة لنا وقفة من خلال ما سبق مع شعيرة الصوم التي بدورها شرعت لمعانٍ سامقة، وحكم برَّاقة، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله فيها: “والمقصود: أنَّ مصالح الصوم لمَّا كانت مشهودة بالعقول السليمة، والفطر المستقيمة، شرعه الله لعباده رحمة بهم، وإحساناً إليهم، وحمية لهم وجُنَّة” زاد المعاد2/30.

وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته” أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن مسعود بسند حسن.

فالصوم المقصود شرعا معلل بقول الله تعالى: (لعلكم تتقون).

والتقوى هي: الحذر والوقاية من كل خلق ذميم يؤذي الفرد والمجتمع في العاجلة والآجلة… يقول صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه” وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “فإن سآبّه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم”.

إن الصائم المتقي الله بصيامه تتحرك غريزة الأكل لديه، فيقمعها بسلطان التقوى، ويلجمها بلجام المراقبة، لأنه عَبَد الله عبادة السر، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: “كل عمل ابن آدم له إلاَّ الصوم فإنَّه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي” أخرجه الشيخان.

لهذا كان أجر الصائم المتقي الله عظيما كما في الحديث “من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه” البخاري ومسلم. أي إيماناً بوجوبه واستشعاراً بالأجر من عند ربِّه.

وما سمي رمضان رمضانا إلا لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة.

إن الصائم المتقي الله بصومه صابر، فالصوم شهر الصبر، قال صلى الله عليه وسلم لكهمس الهلالي “صم شهر الصبر” السلسلة الصحيحة.

يقول ابن رجب رحمه الله: “فإن الصيام من الصبر” وقد قال الله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).

والصبر نصف الإيمان. فالإيمان شطران، نصفه صبر ونصفه شكر.

والصوم يجمع كل أنواع الصبر، فإن فيه صبراً على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش والضعف… لكن لما كان تألمه هذا عبادة لله وطاعة له فإنه يهون على النفوس الطيبة، ويسهل على النفوس التقية النقية، لأن ذلك الجوع والظمأ في مرضاة الله، إنه جوع سببه الامتثال لأمر الله تعالى.

ومثل هذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه. كما قال الله تعالى في المجاهدين: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين) التوبة.

فقد شرع الصيام ليربي في الإنسان قوة الإرادة إلى جانب صحة العبادة وذلك من خلال ثلاث أمور:

أولها: كفه عن الشهوات والملذات وعن المعاصي طيلة شهر بكامله.

ثانيها: حثه على الاجتهاد في الطاعات وفعل الخيرات.

ثالثها: توافر الأجواء الإيمانية والنفحات الربانية التي تميز رمضان عن باقي الشهور الأخرى بحيث يجد المرء نفسه ذو إرادة قوية وهمة عالية لا يملكها في الشهور الأخرى.

والإرادة هي الحافز والموجه الأساسي للإنسان على تسخير قدراته وطاقاته الإيجابية. فبقدر ما تتقوى إرادته بقدر ما ينقاد للعمل والعكس بالعكس.

فقد كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يسيرُ في طريقِ مكَّةَ فمَرَّ على جَبلٍ يُقالُ له: جُمْدَانُ فقال: (سِيروا هذا جُمْدَانُ سبَق المُفرِّدونَ سبَق المُفرِّدونَ) قالوا: يا رسولَ اللهِ ما المُفرِّدونَ؟ قال: (الذَّاكرونَ اللهَ كثيرًا والذَّاكراتُ). أبو هريرة في صحيح ابن حبان الرقم:858.

إن الصوم بهذا الطرح سيتحول إلى مجال لتقرير الإرادة الجازمة واتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد. كما سيكون وسيلة استعلاء على ضروريات الجسد إلا في وقتها، فهو ميزان لترتيب الأولويات في وقتها. واحتمال ضغطها وثقلها في غير أوانها.

وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس واحتمال مشقات طريق الجنة المفروش بالعقبات والأشواك والذي تتناثر على جوانبه الرغبات والشهوات. فالصوم أعظم طريق لإذلال النفس والسيطرة عليها والتمرن على شد لجامها وقيادتها.

فحري بهذا الشهر أن يكون فرصة ذهبية، للوقوف مع النفس ومحاسبتها لتصحيح ما فات، واستدراك ما هو آت، قبل أن تحل الزفرات، وتبدأ الآهات، وتشتد السكرات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *