شرح منظومة العلامة القاضي محمد أبي بكر القيسي الغرناطي التي سماها «نيل المنى في نظم الموافقات» للإمام الشاطبي -رحمه الله- الشيخ مولود السريري

وما من التفسير فيمـا لـم يقـع ***في ظله التكليف فهو بالتبع
لذلك لم يسـل عن الأبّ عمـر …………………………..
«و» أما «ما» يطلب ويدرس «من» مسائل علم «التفسير» وهو قد تقرر عده «فيما» أي في القسم الذي لم «يقع» أي لم يكن «في ضمنه» وما دل عليه من أمور «التكليف» فلم يكن تحته عمل مطلوب الإتيان به شرعا، «فهو» إنما يذكر فيه -في هذا العلم- ويبحث «بالتبع» وبالعرض، فهو غير مقصود لذاته، وإنما يدرس فيه لأنه يتوقف عليه فهم الخطاب، فإذا كان المراد معلوما فالزيادة على ذلك تكلف.
«لذلك لم يسل عن» معنى «الأبّ» -الوارد في قوله تعالى: {وفاكهة وأبا}- «عمر» بن الخطاب رضي الله عنه؛ قال الشاطبي: «وهو معنى إفرادي لا يقدح عدم العلم به في علم المعنى التركيبي في الآية، إذ هو مفهوم من حيث أخبر الله تعالى في شأن طعام الإنسان أنه أنزل من السماء ماء فأخرج به أصنافا كثيرة مما هو من طعام الإنسان مباشرة، كالحب والعنب والزيتون والنخل، ومما هو طعامه بواسطة مما هو مرعي للأغنام على الجملة، فبقي التفصيل في كل فرد من تلك الأفراد فضلا على الإنسان أن لا يعرفه. فمن هذا الوجه -والله أعلم- عد البحث عن معنى الأب من التكلف، وإلا فلو توقف عليه فهم المعنى التركيبي من جهته لما كان من التكلف، بل من المطلوب علمه، لقوله: {ليدبروا آياته}»(*).
…………………………. وعن تخوف سؤاله صـدر
وكل ما توقف المطـلـوب **عليـه فهـو مثلـه مطـلـوب
كالنحو واللغات والتفسير **وذا سيأتي بعد في التقرير
«و» لذلك «عن» كلمة «تخوف» -الواردة في قوله تعالى: {أو يأخذهم على تخوف}- «سؤاله صدر» ووقع، فأجابه الهذلي بأن التخوف في لغتهم التنقص، وأنشد شاهدا عليه:
تخوّف الرحل منها تامِكاً قَرِدا **كما تخوّف عود النّبْعَةِ السَّفَنُ
«و» هذا حكم «كل ما يتوقف» على معرفته معرفة «المطلوب» «فهو مثله مطلوب» لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، مثل ما سأل عنه عمر هنا.
وذلك «كالنحو» وألفاظ «اللغات» «و» علم «التفسير» «و» كل «ذا سيأتي بعد في التقرير» لمسائل هذا العلم وقواعده.
المقدمة السادسة
في أن الطريق التقريبي في بيان ما تطلب معرفته هو الطريق الذي ينبغي المضي عليه في التفسير لمعاني النصوص الشرعية وغيرها، وفي ذلك يقول:
ومـا بـه معـرفـة المـطـلــوب **له طريـق أول تقريـبـي
مستعمـل للشـرع في الأمـور ……………………….
«وما به» تحصل «معرفة» الأمر «المطلوب» إدراكه والعلم به سواء كان تصورا أو تصديقا «له» يعني في ذاته وحقيقته -كما تقول زيد له جسم، فالجسم هو زيد نفسه- طريقان، وهما: « طريق أول» مقدم على الثاني لأنه «تقريبي» يذكر فيه ما هو قريب وسهل فهمه والإفهام به.
ثم إنه «مستعمل للشرع» يعني لصاحب الشرع، وقوله «مستعمل للشرع» هو مثل قولك: فلان محبوب زيد، أي يحبه زيد، ومثل هذا كثير في كلام العرب، في كون معنى قوله مستعمل للشرع يعني يستعمله الشرع، ثم بيَّن محل هذا الاستعمال فقال «في» بيان «الأمور» التي يريد بيانها للناس.
…………………………….. مـوصـل يليـق بالجمـهـور
إذ هو مقتضـى كـلام العـرب **والشرع جاء بلسان عربي
كسائـل عـن النجـوم قلـت مـا *…………………………..
ثم إنه -أي هذا الطريق- «موصّل» مبلغ إيصاله وتبليغه به من العلم، والمعرفة والبيان، ثم إنه الطريق الذي «يليق بالجمهور» وعامة الناس، إذ هو الأسهل في البيان، لقرب مضامينه إلى عامة العقول والأفهام.
«إذ هو مقتضى» حال «كلام العرب» من جهة البيان والإفهام، فمن عادة العرب التخاطب بما تفهمه الجماهير ويدرك المراد به عامة الناس، «و» خطاب «الشرع جاء بلسان عربي» فكان البيان في الشريعة على وفق ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام: «الكبر بطر الحق وغمط الناس» ففسره بلازمه الظاهر لكل أحد.
وكما تفسر ألفاظ القرآن والحديث بمرادفاتها لغة من حيث كانت أظهر في الفهم منها، ومقتضى هذا كله أن الأخذ بهذا الطريق في البيان وتبليغ المعارف أفضل، وذلك بأن يصور ما يراد تصويره بما يسهّل إدراكه ومعرفته، وذلك يفرض مسألة «كسائل» سألك «عن» معنى «النجوم» فأجبته و«قلت» له هي «ما»
………………………. تبصرها ليلا تضيء في السما
ثم له أيضا طريـق ثـان لا يشمـل الجمـهــور بالبـيــان
فبعده عن الطباع أهمله ** وصده عن اعتبـار الشرع لـه
«تبصرها ليلا» وهي «تضيء في السما» فهذا الجواب لا يحتاج ذلك السائل في فهم معناه إلى رفع عينيه إلى السماء ليلا، فإدراكه له سهل وقريب، هذا هو الطريق الأول وهذه هي صورته.
«ثم له» أي لما ذكر من معرفة المطلوب «أيضا طريق» آخر «ثان» خاص بأرباب البحث عن حقائق الأشياء وماهياتها وأوصافها الذاتية، وهذا الطريق «لا يشمل الجمهور بـ» ما يتضمنه من «البيان» والتفسير والتصوير.
«فبعده عن» مناسبة وموافقة «الطباع» والمدارك العادية التي يسهل على الجمهور أخذ المعارف منها «أهمله» كان موجبا لإهماله في مجال التخاطب والإفهام والحوار العادي بين الناس، «وصده» أي منعه وصرفه «عن اعتبار» صاحب «الشرع له» في بيانه لأحكامه وشرائعه وما أنزله من علوم ومعارف في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن مسالكه صعبة المرام على الناس {وما جعل عليكم في الدين من حرج}.
ومقتضاه طلب المحدود معرفة من جهة الحدود
«و» هذا الطريق «مقتضاه» الذي يقتضيه ويوجبه العمل به هو «طلب المحدود معرفة» يعني طلب معرفة ما يراد تحديده -تعريفه وبيانه- «من جهة الحدود» يعني من الجهة التي يمضي عليها في وضع الحدود على الطريقة المنطقية، كما إذا سئل عن الملك فيجاب «ماهية مجردة عن المادة أصلا»، أو يقال: «جوهر بسيط ذو نهاية ونطق عقلي» أو يقال: ما الكوكب؟ فيجاب بأنه «جسم بسيط كروي مكانه الطبيعي نفس الفلك من شأنه أن ينير متحرك عن الوسط غير مشتمل عليه» -وما أشبه ذلك من الأمور التي لا تعرفها العرب، ولا يوصل إليها إلا بعد قطع أزمنة في طلب تلك المعاني، ومعلوم أن الشارع لم يقصد إلى هذا، ولا كلف به.
هذا شأن التصور وحاله، وأما التصديق فإنه يطلب فيه أن تكون مقدماته ضرورية أو ما يقرب منها، فإن ذلك هو ما عليه أسلوب الخطاب الشرعي، وعليه قيامه في هذا الشأن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-(*) الموافقات، ج.1/ ص.29.
يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *