هل يفقد الأثر الأدبي قيمته بإعادة نشره؟

قال لي: هل قرأت قصيدة فلان التي عارض بها ابن زيدون، المنشورة في العدد الأخير من المجلة؟ وكان يعني مجلة يشرف على تحريرها، فقلت له: لقد قرأتها منذ عشر سنوات في مجلته التي كان ينشرها بتطوان، فأجابني: كيف يرسل إلينا شيئا سبق له نشره، فيورطنا مع القراء؟ فضحكت، وقلت له: أنت أيضا من أصحاب هذا الرأي القائل.. قال: وأي رأي؟ قلت هذا الذي عبرت عنه باستنكار وجعلته مما يوقع المجلة في ورطة. فقال: ألا ترى أنه مما لا يليق بمجلة محترمة أن تعيد نشر ما سبق أن نشر في مجلة أخرى؟

قلت إن ما لا يليق بمجلة محترمة هو أن تنشر التافه والغث من الإنتاج الأدبي أو العلمي إن كان في الإنتاج التافه والغث ما يصح أن يوصف بأنه أدبي أو علمي، وأن ما لا يليق بمجلة محترمة هو أن تنشر المقالات والأبحاث التي ليس لأصحابها منها إلا الهيكل العظمي المخيف، وأما كل ما يزينها من أفكار، وآراء فإنه مما سطوا عليه وتبنوه بغير خجل ولا حياء، وأن ما لا يليق بمجلة محترمة هو أن تكون صاحبة دعوة ورائدة فكرة، فتنشر ما لا يتفق ودعوتها، وما يروج لغير فكرتها بدافع ملء الصفحات الفارغة، ولا تبالي أن تبدو أمام الناس متناقضة مع نفسها، متهافتة إزاء مبادئها وغاياتها.
أما إعادة نشر الأثر الذي سبق نشره في مجلة أخرى، فليس أبدا مما لا يليق بمجلة محترمة، ولاسيما إذا كان مقدما من طرف صاحبه الذي أنشأه وله الحق في إعادة نشره متى شاء وأينما شاء.
إن المجلة التي تحرص على أن تكون محترمة، أول ما يجب عليها هو أن تحترم قراءها، وذلك بأن يكون ما تقدمه إليهم من المواد، طبقة عالية من الإنتاج الذي ينمي ثقافتهم، ويربي ذوقهم، ويفتح أعينهم على آفاق من المعرفة والأدب والفن ربما كانت محجوبة عنهم مجهولة لديهم، والأثر الذي خضع مرتين لامتحان النشر والناشرين وجاز هذا الامتحان بنجاح لا بد أن يكون في الذروة من هذه الطبقة، فماذا على المجلة التي نشرته ثانيا، ولاسيما بعد مرور مدة كافية لجعل الذين قرأوه أولا يستفيدون من إعادة قراءته، بله الذين لم يقرأوه إطلاقا؟
وقلت لصاحبي: وها أنت في سعة إطلاعك وعلى علاقتك الشخصية بصاحب القصيدة، قد فاتك أن تعرف قصيدته هذه حتى أرسلها إليك فقرأتها ورأيتها جديرة بالنشر، ومثلك كثير ممن لم يطلع عليها ولم يكن ليعرفها أو لم يكتب لها أن تنشر من جديد.
إن كثيرا من الصحف والمجلات تعيد نشر المقالات وأبحاث وآثار أدبية عن زميلات لها لما ترى فيها من الفائدة والمتعة لقرائها، ويكون من الواجب الأدبي عليها أن تنوه بالصحيفة أو المجلة التي نقلت عنها، فما هو الفرق بين ذلك وبين الأثر الذي تعيد نشره معززة بإذن صاحبه ورغبته في نشرها له حين يرسله إليها مباشرة وبدون واسطة؟
وتوجهت بهذا السؤال لصاحبي: من أين عرفنا أنا وأنت وكثير هذه الآثار الأدبية الكبرى للأدباء المعاصرين، مثل قصيدة المعلم لشوقي وتائية اللغة العربية لحافظ إبراهيم، وهي الحقيقة للزهاوي وما سواها لهم ولغيرهم من أدباء جيل النهضة العربية الحديثة؟ أليس من تداول نشرها وتناقل الصحف والمجلات لها في الشرق والغرب منذ أن قالوها إلى الآن، فضلا عن ظهورها في دواوينهم والمنتخبات التي ألفت من أشعارهم والدراسات التي كتبت حولها؟
بل ما الذي حفظ لنا آثار الأدباء السابقين من عصر الجاهلية إلى عصرنا الحالي، سوى هذه المجموعات التي ألفها العلماء والرواة ولم يستنكف أحد منهم أن يثبت من ذلك ما أثبته غيره، ولا أن يضمن تأليفه القصيدة التي سبق أن تضمنها تأليف آخر، لما أن الأثر القيم يفرض نفسه على الجميع، ويرى الناس خلو الكتاب منه نقصا في ذلك الكتاب؟
وإذن فإعادة نشر الأثر قديما وحديثا هي وسيلة الاحتفاظ به وصونه من الضياع، فضلا عن كونها هي الكفيلة بإذاعته أولا وسيرورته بين الناس، فالمجلة التي تقوم بهذا العمل إنما تسهم في نشر المعرفة وكفالة الإنتاج الأدبي، وهي بذلك أجدر بالاحترام وأن ينظر إليها بالعين التي كان ينظر بها إلى أولئك الأعلام من رواة الأدب ومؤلفيه.
وننظر إلى كاتب الأثر الأدبي، فنجده قد تكبد مشقة التفكير فيه أولا، ثم مشقة إخراجه إلى حيز الوجود، وربما كان عليه أن يراجع ويقارن ويحقق، خصوصا إذا كان الأثر بحثا علميا أو دراسة أدبية، ويأتي بعد ذلك تعب نقله أو نسخه على الآلة الكاتبة، وقد يدفع أجرة ذلك إذا كان لا يحسنه..فإذا بعث به إلى إحدى الصحف أو المجلات ونشر في حدود دائرة الصحيفة أو المجلة، أصبح حقه فيه منتهيا ونحبه مقضيا، على رأي أصحاب النشرة “المحترمة” التي ربما لم تدفع له شيئا بدل أتعابه أو دفعت له النزر اليسير الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.. فإذا رأى أن الأثر لم يكن له الصدى المطلوب لضيق دائرة النشر، أو أنه نشر مشوها بسبب تصرف هيئة تحرير المجلة أو الصحيفة التي نشر فيها أو عدم تصحيحه، وبدا له أن يعيد فيه النظر ويحور منه بالزيادة أو النقصان وتغيير العنوان..، ثم بعثه إلى صحيفة أو مجلة أخرى فرضيته ونشرته، قامت قيامة بعض الفضوليين وكتبوا ناعين عليه عمله هذا ومعتبرين أنه ارتكب إحدى الفظائع.
ولماذا؟ أليس هو إنتاجه الخاص، ومن حقه أن ينشره وحتى أن يستفيد منه كلما وجد لذلك سبيلا؟
وما رأي هؤلاء السادة فيما لو أخرج الكاتب أثره هذا في كتاب أو دفتر، وما الفرق بين ذلك وبين إخراجه ثانيا في نشرة عمومية؟
وهؤلاء الفنانون من ممثلين وموسيقيين ومغنين لماذا كان لهم الحق في عرض أعمالهم الفنية علينا مكررة معادة في كل وقت وحين من غير أن ينكر عليهم أحد ويستهجن علمهم إنسان، مع العلم بأنهم يستفيدون أضعاف ما يستفيده الأديب، وأن حقوقهم محفوظة لهم كما عرضت أعمالهم وأذيع إنتاجهم بأي وسيلة وفي أي زمان ومكان؟
ولقد يكون من هذا الإنتاج ما يغشي، وما يعمي ويصم، ومع ذلك فإنه مفروض عليك أن تسمعه أو أن تسمعه وتراه كلما أدرت مفتاح مذياعك أو تلفازك.. وهذا في حين أن الكاتب لا يفرض عليك نفسه، لأنك حر في قراءته أو عدمها، وسهل عليك جدا أن تتخطاه إلى غيره، وتتصفح المجلة فتقرأ ما شئت وما يروق لك من مقال أو بحث أو قصة أو شعر، وتترك الأثر المعاد نشره لمن لم يقرأه من قبل، على أنك هنا لم تعب الأديب لأدبه وإنما تعيبه لإعادة نشر هذا الأدب، ونحن نعيب الفنان المزعوم، ذلك الذي يفرض نفسه علينا بمعاداته ومكرراته الممجوجة، بتفاهة عمله وضحالته، بتسوره على حرم الفن وتشبعه بما لم يعط، فبين النظرين فرق واضح.
وبعد فإنا طبعا لا أقول بأن المجلة أو الصحيفة لا يكون لها رصيد إلا من هذه الآثار التي سبق نشرها في غيرها، فالمجلة أو الصحيفة من هذا القبيل لا اعتبار لها عند أحد ما هي إلا كناش “كوبيا” مما يستعمله التجار وأصحاب الشركات لحفظ نسخ من مراسلاتهم وأوراق حساباتهم، والذي أعنيه هو أن الأثر الأدبي الذي يعاد نشره ولو أكثر من مرة لا يفقد قيمته بذلك، وإن المجلة “المحترمة” ما نشرته حتى قدرت قيمته، ولا غضاضة عليها بذلك ولا يحق لها أن تتذمر من الأديب الذي بعث لها به مادام له قيمته، ولو دفعت له بدلا، فكيف إن لم تدفع شيئا، وكفى بعدم علمها هي ومحرروها بسبق نشره شهادة على جدته وفائدته.
مقال للشيخ عبد الله كنون
مجلة دعوة الحق العدد التاسع والعاشر السنة العاشرة
ربيع الثاني-جمادى الأولى1387/يوليوز-غشت 1967 الصفحة 17-18

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *