دفاعا عن السنة النبوية الشريفة سلسلة الردود العلمية على خريج دار الحديث الحسنية «محمد بن الأزرق الأنجري» -3- منير المرود

المقدمة السادسة: ترديده لخرافة «عصمة ما في الصحيحين»
لقد أكثر صاحب تلك المقالات من تكرار عبارة «عصمة الصحيحين» كما هو الحال في مجموعة من كتاباته، أو «مقدسو الصحيحين» كما في مقال الانتحار، وهي دعوى باطلة لا تستقيم إلا في عقل صاحبها ومن قلد، أما تاريخ علماء الحديث وصنيعهم مع صحيح البخاري ومسلم يدل على عدم صدق هذه الدعوى، فكيف يكونان بهذه القدسية ثم تتوالى الكتب والمؤلفات التي تنتقدهما، كما هو الشأن بالنسبة لأبي علي الغساني في جزء العلل من كتابه تقييد المهمل، والدارقطني في «الإلزامات والتتبع»، وكذا الحافظ أبو السعود الدمشقي، قال الحافظ: (…وقد اعتنى أبو الحسن الدارقطني بتتبع ما فيهما من الأحاديث المعللة فزادت على المائتين.
ولأبي مسعود الدمشقي في أطرافه انتقاد عليهما. ولأبي الفضل بن عمار تصنيف لطيف في ذلك وفي كتاب التقييد لأبي علي الجياني جملة في ذلك) .
أضف إلى هؤلاء الإمامين الجليلين: ابن حزم وابن القطان الفاسي وكذا الحافظ ابن حجر في الفتح، ثم توالت الدراسات والانتقادات والاستدراكات على ما في الصحيحين، ولا يزال الباب مفتوحا على مصراعيه لكل محدِّث متمكن، وما بحوث وكتب الشيخ الألباني عنا ببعيدة. فالنظر في الصحيحين وغيرهما لمن له الأهلية العلمية والقدرة العقلية والرسوخ في العلم لم ينكره أحد، بل إن رد بعض العلماء لحديث أو حديثين لا يعد أمرا مستقبحا، بل المستقبح ما يفعله خريج دار الحديث وأمثاله ممن ذكرنا في المقدمة الأولى حيث يجعلون من الصحيحين مرتعا لهم، محاولين إظهار الشيخين بصورة الغبيين الساذجين اللذين يصدقان الخرافات والأساطير، بل إن صاحبنا قد رمى الإمام البخاري بتعمد الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سأبين في مقدمة أخرى.
فلا عصمة عند علماء السنة لبشر أيا كان إلا للأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فالبخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة بشر كسائر البشر يتصور في حقهم السهو والخطأ والزلل، بل إن ذلك من مقتضيات حكمة الله العزيز الحكيم، ليبقى سبحانه وتعالى المتصف بصفات الكمال التي لا يعتريها نقص، وبالتالي فليس هناك أصل لهذه المقولة التي ظل يجترها في جل مقالاته، ليصور نفسه في صورة البطل المغوار الذي أقدم بكل شجاعة على ما أحجم عنه غيره. فرجاء لا تكرر مثل هذه الترهات مرة أخرى فتضع نفسك في مثل هذه المواقف المحرجة جدا.
المقدمة السابعة: انتقاصه من علماء الملة سلفا وخلفا
رغم أن صاحبنا قد دافع عن هذه التهمة في مقال له بعنوان: «تهافت صاحب القراءة المتهافتة» إلا أنه لم يزد الطين إلا بلة والمرض إلا علة كما يقال، فعباراته دالة على صدق ما عنونا به هذه المقدمة، ولو أردنا أن نتبع كلماته المصدقة لحقيقة هذه الدعوى لطال بنا المقام، فليت الأمر اقتصر على عبارة «سذج المسلمين» أو «سذج التابعين»، مع ما فيهما من سوء أدب مع المخالفين من السلف وإن كانوا مخطئين، بل إنه يصرح بأنهم (أضعف منا عقولا، وأقل ذكاء وفطنة، فلا نطمئن لاجتهادهم ولا نسمع لقولهم في هذا الباب) -هكذا قال-، فالعلماء المتقدمون عند صديقنا سذج وأغبياء وأقل ذكاء وفطنة وطيبون -بمعنى مغفلون- بينما نجده مباشرة بعد الجملة المذكورة قبل قليل يثني على المعتزلة ويعلي من شأنهم قائلا: (والحق أن بعض المسلمين العقلانيين كالمعتزلة، رفضوا تلك الخرافة، لكن الفقهاء عاندوا).
ولئن كانت عباراته تلك خاصة التي رددها في مقال «التهافت» من قبيل المتشابه الذي قد يحمل على حسن الظن عند بعض السذج، فإنه صرح في مقال آخر بما لا يدع مجالا للشك عن حقده الدفين لعلماء الأمة سلفا وخلفا، فقال في بحث له قلد فيه من ضعف حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم: (والعلماء المتقدمون كانوا أبناء بيئاتهم ونتائج مستوى شعوبهم المعرفي، أي أنهم كانوا بسطاء ساذجين، يؤمنون بالخرافات والأساطير كيفما كانت، ويبنون عليها تفسيرهم لكلام الله تعالى، غير قاصدين التحريف والإساءة، بل ذلك مبلغهم من العلم والفهم.
والمفسرون الذين يقلدونهم اليوم، حمقى ومغفلون مهما كانت رتبتهم، ومهما جئتني باسم مفسر كبير فلن تردعني عن موقفي الصادم الصارم، وسأذكر لك خرافة ساقها الإمام ابن جرير الطبري شيخ المفسرين معتمدا عليها في تفسير آيات البقرة في السحر، ليطمئن قلبك، وتعذرني على لغتي القاسية أحيانا)هـ.
فهو يصرح هنا بأن المقصود بالسذج جميع العلماء المتقدمين حسب ما تقتضيه قواعد اللغة التي يطلب منا أن نتحاكم إليها، فإذا ارتقينا أكثر وحكمنا القواعد الأصولية التي تقتضي منا حمل المتشابه على المحكم، سيتبين من خلال كلامه الأخير أن جميع العلماء سذج يؤمنون بالخرافات كيفما كانت، فإذا أضفنا لذلك أنه يعترف بنفسه في نهاية المقطع عن استعماله للغة قاسية، رفع الخلاف وافتضحت نيته، وظهر للناس سوء طويته.
ولن أطيل أيضا في هذه المقدمة فقد ظهر الغرض منها وبان، وحصل للقلب بما نقلته آنفا الاطمئنان، ومن أراد الزيادة فليرجع إلى كتاباته فهي خير دليل على صدق ما ادعيت.
والخلاصة عند صاحبنا: أن علماء السنة سذج مغفلون بينما المعتزلة عقلاء متنورون، فتنبه!؟
وهو لم يخترع هذا الرأي وتلكم الطريقة في السب والشتم من عنده إنما هي مدرسة يتوارثها أصحاب الفكر المنحرف الذين ينتقدون السنة ويطعنون في علماء الملة، كصنيع أبي رية والبيطري وأبي بكر صالح وزكريا أوزون وغيرهم. فهو يقلدهم ويسير على دربهم.
والغريب أنني وجدته في مقال له قديم ينكر على أحد المخالفين له عنوان المقال الذي خالفه فيه، وهذا نص كلامه ولنتأمل ونقارن: (أولا: سمى مقاله هكذا «ردا على متاهات العدل والإحسان في ملفها الغيبي».
فبدأ بالهجوم والمجازفة، واصفا شريحة عظيمة، تضم فئة من العلماء الصادقين بالتيه، وهو من لوازم الجهل والضلال) انتهى كلامه. فنجده يحاكم صاحب المقال المشار إليه بلازم الكلام لا بصريحه -ومن المعلوم عند المحققين أن لازم القول ليس بقول في أغلب الأحيان-، بينما ينكر علينا محاكمته بصريح كلامه الذي لا يدل إلا على ما قلته وقاله من رد عليه قبلي، فتأمل!؟
المقدمة الثامنة: تعالم صاحب الخرافات
كل من قرأ مقالات صديقنا ممن لا دراية له بعلوم الشريعة بشكل عام، والجدل الدائر حول السنة قديما وحديثا بشكل خاص، سيعتقد أن له قدم السبق فيما خطته يداه، والحال أنه مسبوق بمن ذكرنا ومن لم نذكر، ورغم أنه يشير في بعض مقالاته على استحياء إلى بعضهم كمحمد عبده والشيخ محمد رضا ومن المعاصرين عدنان إبراهيم ومحمد هداية خاصة في مقدمة مقالته المعنونة بـ«تنقيح صحيحي البخاري ومسلم ضرورة شرعية»، إلا أن عباراته في مواطن أخرى توحي بأصالته في اكتشاف هذه الترهات، ومن ذلك قوله في المقال المعنون بـ«تهافت صاحب القراءة المتهافتة: (وعندما نشرنا موضوع: «تنقيح صحيحي البخاري ومسلم ضرورة شرعية»، قابلنا بعض الطيبين بالرفض المطلق، وادعاء خلو الكتابين مما يستدعي المراجعة والنقد. ثم لما صدمناهم بخرافة الانتحار المخرجة في صحيح البخاري تراجعوا خطوة) اهـ.
فعبارة «صدمنا» بما تحمله من معاني النرجسية وتعظيم النفس، توحي بأنه اكتشف ضعف القصة بنفسه دونما واسطة وهذا عين التدليس، فكان الأولى أن يعبر بكلمة تدل على أن علماء الحديث منذ القديم هم أول من أشار إلى توهين هذه الزيادة.
إلا أنه وبكل أمانة قد أشار في مقال لاحق خص به زيادة الانتحار تلك على من سبقوه إلى تضعيف تلك الزيادة، فذكر منهم الشيخ الألباني رحمه الله واتهمه بالتقصير في البحث مع العلم أنني أكاد أجزم أن جل تلك الزيادات والاستدراكات التي استدركها على المتقدمين في هذا البحث قد استفادها من تخريج الشيخ الألباني للحديث في كتابه «دفاع عن الحديث النبوي» ص:40 وما بعدها، و«سلسلة الأحاديث الضعيفة» في موضعين أشار إليهما صاحب المقال الأول برقم 1052، والثاني برقم 4858، وسأبين صدق هذه الدعوى في مقال مستقل أنسف من خلاله بنيانه من القواعد.
والمقصود من هذه المقدمة أن الرجل متعالم مدع للمعرفة، ينسب إلى نفسه جهود من سبقه من العلماء المحققين منهم والمضللين، دون أن يكلف نفسه عناء ذكر الواسطة التي حصل من خلالها على المعلومة، لكي يوهم بعض المغفلين الذين يصفقون له معتقدين أنه باحث متمرس، والحال أنه قاصر متحمس.
وما ذكرته آنفا لا يعدو أن يكون مثالا فقط لما احتوت عليه كتاباته من نماذج أخرى سأبينها في ردودي القادمة إن شاء الله، وليت الأمر وقف عند هذه العبارة وغيرها مما ملأ به مقالاته، بل نجده يضع نفسه جنبا إلى جنب مع العلماء العظام، حيث قال في معرض رده على بعض منتقديه في مقاله «تهافت صاحب القراءة المتهافتة»: (وإذا كان شيوخه المتخصصون «قناعيس»، فنحن بفضل الله وكرمه لسنا أقل منهم شأنا).
فإن قال قائل: إن هذا كان منه على سبيل ردة الفعل التي لا يحاسب عليها صاحبها لأن المقصود منها إغاظة الخصم، قلت: إن هذا العذر يكون مقبولا فيما إذا كانت المحاورة بينهما بشكل مباشر وجها لوجه، لأن المرء حينها يتحدث بتلقائية وقد يقول كلاما لا يقصد معناه ليثير حفيظة الطرف المقابل، أما وأن الرجل جالس في مكتبه أو في أي مكان آخر فإنه لا يكتب إلا ما يعيه عقله ويطمئن إليه قلبه.
ثم أردف القول لهذا الباحث الذي يسارع في تسفيه العلماء المتقدمين، ونسبتهم إلى التقصير في كثير من الأحيان: أربع على نفسك ولا تنتفخ انتفاخ الطاووس، وتتعالم تعالم التيس، فما غرك على مناطحة جبال العلم من الأئمة الكبار واتهامهم بالتقصير إلا المكتبة الشاملة، وضغطة على زر في حاسوبك، لتجد الحديث بجميع طرقه بين يديك، فأين هو عملك واجتهادك ونبوغك، بينما كان القوم يعتمدون على حفظهم أحيانا، وكثرة اطلاعهم وإدمانهم النظر في كتب المحدثين أحيانا أخرى، فلا تقارن نفسك بهم فتهلك.
ولن أطيل في هذه الجزئية فمقالاته المنشورة حبلى بعبارات مشابهة لما ذكرت آنفا، كلها تعالي وتعالم وادعاء للمعرفة كي يواري ضعف حجته وقلة بضاعته، وقصوره أو تقصيره في البحث العلمي كما سيتبين من خلال المقدمة-القاصمة التالية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *