طلب الحصول على جنسية دولة غير إسلامية بين الحاجة المشروعة والرغبة المرجوحة (1/2) د.رشيد بنكيران

يعد طلب حصول المسلم على جنسية دولة غير إسلامية، أو ما يسمى بالتجنس،[1] من المسائل المستجدة في الفقه الإسلامي، وهي ذات شعب متعددة إذ يتجاذبها الجانب العقدي والجانب الفقهي والجانب السياسي، ولهذا كانت مسرح اختلاف بين الفقهاء المعاصرين، وقد ارتأى بعضهم أن يبينوا حكمها الشرعي استنادا إلى قاعدة الحاجة؛ (الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت او خاصة). فإلى أي مدى يصح أن يكون التجنس من الحاجيات التي ينبغي مراعاتها؟ وهل الراغبون في الحصول على الجنسية هم في الحاجة إليها سواء في ميزان الشرع؟ وهل هناك مفاسد تترتب على التجنس تجعلها من المحظورات؟ وإذا كانت كذلك فمتى تنزل منزلة الضرورات التي تبيح المحظورات؟

للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، نقترح، بداية، أن نقف على تعريف مصطلح الجنسية، ثم نبين أصل حكم التجنس بجنسية دولة كافرة، وننتهي إلى التحقيق في شروط تنزيل حاجة التجنس منزلة الضرورة.

 ـ تعريف الجنسية

تعد كلمة “الجنسيّة”، بوصفها تعبيرا عن انتماء الإنسان إلى دولة معينة، فكرة جديدة يرجع تاريخها إلى قيام الدولة المدنية بمفهومها الحديث[2]؛ أي بعد قيام الثورة الفرنسيّة (1789م)، وهي مصطلح سياسي وقانوني عرّفه الحقوقيون وفقهاء القانون بأنه: “رابطة قانونية وسياسية ينتمي الفرد بمقتضاها إلى دولة معينة، بحيث يعتبر جزءاً من شعبها، يتمتع بالحقوق المترتبة على تمتعه بجنسيتها، ويلتزم بالالتزامات التي تترتب على حملة الصفة الوطنية”.

تقوم فكرة “الجنسية” إذاً على أساس أن جميع الأفراد الذين ينتمون إلى الجنسيّة الواحدة يتمتّعون، على السواء، بنفس الحقوق والواجبات، ومن بين أهم تلك الحقوق:

  • يثبت للفرد حقوق المواطن العادي؛
  • يحصل الفرد على الإقامة الدائمة للدولة التي ينتمي إليها؛
  • يتولى الوظائف العامّة في تلك الدولة، من قضاء، أو مناصب عسكرية، أو مدنية، ونحوها؛
  • يتمتّع بالحماية الدبلوماسيّة لشخصه وأمواله في حالة وجوده في دولة أجنبيّة.

وأما الواجبات فمن أهمها:

  • التحاكم إلى قوانين تلك الدولة في كل شؤونه (الماليّة والاجتماعيّة والسياسية)؛
  • المشاركة في بناء تلك الدولة بكل مواهبه وقدراته؛
  • الدفاع عن هذا البلد ومصالحه وتنفيذ أغراضه، بما في ذلك الخدمة في الجيش في حالة الحرب وغير ذلك.
  • تمثيل الدولة خارجيا.

ـ حكم التجنس بجنسية دولة غير إسلامية

يبدأ التجنس أولا وضرورة برغبة الطالب، وهو هنا المسلم، في أن يتمتع بجنسية دولة غير إسلامية، أي أن يلتحق، فعلا، بتلك الدولة ويصير فردا من أفرادها؛ له ما لهم، وعليه ما عليهم.

وإذا تأملنا فكرة “الجنسية” وما أفرزته من مبادئ وتشريعات، فإنها تتعارض كلية مع ثوابت الإسلام وأصوله الكبرى؛ ذلك أن المسلم المتجنس إذا حصل على الجنسية ترتب على ذلك مجموعة من الواجبات، ومن أهمها:

  • خضوعه لقوانين الدولة المانحة للجنسية، واحتكامه إلى شريعتها المخالفة لشريعة الإسلام؛
  • مشاركته في جيش تلك الدولة، والتزامه الدفاع عنها في حالة الحرب ضد أعدائها.

وغني عن التذكير أن الإسلام الذي لم يدع صغيرة ولا كبيرة من أمور المسلمين إلا ضبطها وبين حدودها قد فسح للعلماء ما يكفي لاستنباط الرأي الفيصل في المسألة. والحال، فإننا لا نعدم نصوصا جلية هي بمثابة دليل نهتدي به لاستجلاء هذا الرأي. ولعل الأصل العام المنتظم لها أن هذا الدين لا يرضى للمسلمين، عقيدةً وشريعةً، أن يكونوا تحت سلطان غير سلطان الله، وتحت ولاية غير ولايته، وأن يتحاكموا إلى غير شريعته، وهو أصل أقرته نصوص شرعية كثيرة، نكتفي منها بما يلي:

  • قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) تؤكد هذه الآية الكريمة الإنكار الشديد على “مَن يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد التحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، فالآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت ها هنا[3]“، ومعلوم أن التجنس بجنسية دولة كافرة يفضي إلى التحاكم إلى الطاغوت، ما دام من شروط التجنس الخضوع لقوانينها التي تخالف الكتاب والسنة؛
  • وقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، قال القرطبي: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ ( أي يعضدهم على المسلمين ) فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ( بيّن تعالى أن حكمه كحكمهم، ) وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ( شرط وجوابه ؛ أي إنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم؛ فصار منهم أي من أصحابهم[4]“، والمتجنس قد أقسم وأعطى العهد مطلقا ـ وهو ما يسمى بيمين الولاء ـ على مناصرة الدولة التي منحت له جنسيتها ضد أعدائها مهما كانوا، والنصرة من أعلى مراتب الولاية؛
  • وقوله عليه الصلاة والسلام: « مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ[5] »، وقال عليه الصلاة والسلام في رواية: « وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي[6] ». والراية العمية هي “الأمر الأعمى الذي لا يستبين وجهه… فهو فِعِّيلة من العمي والضلالة. والعصبية معاونة ظلم للتعصب والمحاماة والموافقة عمّن يلزمك أمره أو تلتزمه لغرض[7]“، والمتجنس بجنسية دولة كافرة يقاتل دفاعا عن جنسية دولته، والكفر أصل الظلم والعصبية، فإن قَتل غيرَه كان ظالما يدعو إلى عصبية، وإن قُتل مات ميتة جاهلية.

وبناء عليه، فإن الأصل في طلب الحصول على جنسية دولة كافرة هو المنع والتحريم، ولا يجوز بحال الاختلاف في أصل هذا الحكم أو القول بخلافه؛ لأن النصوص الشرعية واضحة في الدلالة عليه وظاهرة.

لكن حكم التجنس قد يتأثر، مع ذلك، شدة وخفة، بحسب حالة المتجنس التي دفعته إلى طلب الجنسية، ويمكن تصنيف هذا الحكم وفقا لمقصد المتجنس ونيته إلى ثلاث درجات:

  1. – درجة الرضا القلبي: إن رضي المتجنس بأحكام الدولة التي منحته الجنسية، قلبا وقالبا، وبتشريعاتها ومبادئها، باطنا وظاهرا، وكان طلبه للحصول على تلك الجنسية بناء على ذلك الرضا، فقد ارتدّ عن الإسلام، ونقض الإيمان، وخرج عن ملة المسلمين، ذلك أن الرضا بحكم الطاغوت وانشراح الصدر به يُعدّ من نواقض الإيمان الذي أجمع علماء أهل السنة والجماعة على تكفير صاحبه استنادا إلى قوله تعالى: ) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
  2. – درجة سلامة القلب مع حالة السعة: إن أبدى المتجنس الالتزام بتلك الأحكام والمبادئ ظاهرا، وهو في حالة السعة واليسر، مع رفضه لها باطنا وسلامة قلبه منها، فهو، وإن سلم من الكفر على القول الراجح، فإنه على خطر عظيم، وإثم كبير، وسوء خاتمة؛
  3. – سلامة القلب مع حالة الاضطرار: وتشمل أحوالا متنوعة من معاناة المتجنسين، كالخائف على نفسه أو على أحد أفراد أسرته من القتل أو السجن دون وجه حق في بلده الأصل، كحال مسلمي فلسطين ومن شابههم؛ أو كمن لم يجد فرصة عمل يقيم بها سداد عيشه ويستوفي به ضرورياته وحاجياته الأكيدة[8] لا غير؛ أو كمن يخشى على نفسه أو على ذويه من الفتنة في الدين، كأهل تونس قبل الربيع العربي إن صحت الأخبار[9]، فإنّ التجنس بجنسية دولة غير إسلامية من غير انشراح صدر بمبادئ تلك الدولة وقوانينها يدور بين حكم الوجوب والإباحة، إذا تعين التجنس وسيلة لرفع الضرر الذي أصابه، فإنه تقرر في الشريعة الإسلامية أن أهون الشر يُتَحَمّلُ لدفع أعظمه، وهذه الحالات تسمى حالة الضرورة أو الإكراه، ويدخل في مفهوم تلك الحالات الحاجة الماسة إلى للدعاة إلى الله وأئمة المساجد للمسلمين المقيمين في بلاد الكفر، فإن الحفاظ على تدين المسلمين هناك مقصد شرعي وهو من المقاصد الضرورية، ولكن بشرط أن يتعين التجنس بجنسية الدولة الكافرة وسيلة لا بديل عنها لاستيفاء تلك الحاجة، وأن تقدر بقدرها .

(يتبع إن شاء الله تعالى)

[1]– التجنس هو “إفصاح الأجنبي عن رغبته في الانتماء إلى الجماعة الوطنية عن طريق طلب يتقدم به إلى السلطات المختصة في الدولة التي يريد اكتساب جنسيتها إذا توافرت في شأنه الشروط التي يتطلبها قانون هذه الدولة وبشرط موافقة هذه الأخيرة على هذا الطلب”.

[2]الدولة المدنية دولة تحمي كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن القومية والدين والفكر. وينبغي أن تتوافر فيها عدة مبادئ بحيث إن نقص أحدها فلا تتحقق شروط تلك الدولة، وأهمها: أن تقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر؛ وأن تقوم على أساس المساواة في الحقوق والواجبات بين سائر أفرادها ذكورا وإناثا؛ وألا تتأسس على خلط الدين بالسياسة.

[3]– “ذُكر في سبب نزول هذه الآية: أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد. وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل: في جماعة من المنافقين، ممن أظهروا الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. وقيل غير ذلك، قال ابن كثير: والآية أعم من ذلك كله”. تفسير القرآن العظيم، (ج2 / 346).

[4]– تفسير القرطبي (ج6 / 217).

[5]– رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب رقم 13: باب الأَمْرِ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ وَتَحْذِيرِ الدُّعَاةِ إِلَى الْكُفْرِ، ح. رقم 4898.

[6]– رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب رقم 13، جزء من حديث رقم 4894.

[7]– شرح سنن ابن ماجه للسيوطي، (ج1 / 283).

[8]– وهي التي يسبب غيابها مشقة خارجة عن العادة.

[9]– فقد تناقلت الأخبار أن المرأة هناك كانت تمنع من حجابها ويضيق عليها بسبب ذلك، ويضيق على الرجال من أداء الصلوات الخمس في المساجد أو صلاة الفجر وغير ذلك. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *