القرآن كلام الله حماد القباج

 

القرآن الكريم هو آخر كتاب أنزله الله سبحانه على البشرية يتضمن كلامه؛ وقد خاطب الله تعالى العقلَ الإنساني بالحجج والبراهين التي تثبت بأنه كلام الله، وبأنه لا يمكن أن يُفترى من دون الله.

وهذه البراهين ليست فقط من جهة فصاحته وبلاغته، أو نظمه وأسلوبه، أو إخباره بالغيب والمغيبات، ولا من جهة صرف الدواعي والمعارضات ..

بل هو آية ومعجزة ظاهرة، ودلالة باهرة وحجة قاهرة من وجوه متعددة:

من جهة اللفظ، ومن جهة النظم، ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أمر بها، ومعانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته ..

ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الغيب الماضي، والغيب المستقبل، والمعاد ..

ومن جهة ما أخبر به عن حقيقة النفس الإنسانية، وطريقة التعامل معها، وحاجة الإنسان إلى تزكيتها، ومنهاج ووسائل تلك التزكية ..

ومن جهة إجابته على أسئلة الوجود الإنساني؛ إجابات منطقية معقولة تُطَمئن النفس وتَشفي الصدر من أمراض الحيرة والقلق والاضطراب ..

وغير ذلك مما يهدي فيه القرآن للتي هي أقوم، ويرشد إلى ما هو أصلح وأنفع؛ مما يؤكد أنه كلام خالق السماوات والأرض الخبير بكل ما فيهما: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]

فكل ما ذكره علماء القرآن والباحثون من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم؛ حجة على إعجازه، وفيما ذكروه تنوع هام؛ يعمق الحجة ويرسخ البرهان.

المعجزة الكبرى:

لذلك كله؛ كان القرآن العزيز أكبر وأهم المعجزات النبوية:

عن أبي هريرة مرفوعا: «ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر؛ وإنما كان الذي أوتيتُه وحيا أوحاه الله إلي؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة»[1].

قال القرطبي رحمه الله[2]: “الأمة رضي الله عنها لم تزل تنقل القرآن خلفا عن سلف والسلف عن سلفه إلى أن يتصل ذلك بالنبي عليه السلام المعلوم وجوده بالضرورة، وصدقه بالأدلة المعجزات، والرسول أخذه عن جبريل عليه السلام عن ربه عز وجل.

فنقل القرآنَ في الأصل رسولان معصومان من الزيادة والنقصان، ونقله إلينا بعدهم أهل التواتر الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلونه ويسمعونه؛ لكثرة العدد.

ولذلك وقع لنا العلم الضروري بصدقهم فيما نقلوه من وجود محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ظهور القرآن على يديه وتحديه به.

ونظير ذلك من علم الدنيا: علمُ الإنسان بما نقل إليه من وجود البلدان، كالبصرة والشام والعراق وخراسان والمدينة ومكة، وأشباه ذلك من الأخبار الكثيرة الظاهرة المتواترة.

فالقرآن معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم الباقية بعده إلى يوم القيامة، ومعجزة كلى نبي انقرضت بانقراضه، أو دخلها التبديل والتغير، كالتوراة والإنجيل”.

بدعة القول بخلق القرآن:

زعم المعتزلة بأنَّ القرآن مَخلوقٌ في جِسمٍ مِنَ الأَجسامِ أو في جِبريلَ، أو مُحمّدٍ، أو جِسمٍ آخرَ غيرهما؛ فمن ذلك الجسم ابتدأ لا من الله.

قال ابن تيمية[3]: “وقد قال الله تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق}؛ فقال: إنهم يعلمون ذلك ولم يقل إنهم يظنونه أو يقولونه؛ والعلم لا يكون إلا حقا مطابقا للمعلوم بخلاف القول والظن الذي ينقسم إلى حق وباطل؛ فعلم أن القرآن العربي منزل من الله لا من الهواء، ولا من اللوح المحفوظ، ولا من جسم آخر، ولا من جبريل، ولا من محمد، ولا غيرهما.

وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره من السلف في تفسير قوله: {إنا أنزلناه في ليلة القدر}؛ أنه أنزله إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزله بعد ذلك منجما مفرقا بحسب الحوادث، ولا ينافي أنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل نزوله؛ كما قال تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ}، وقال تعالى: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون}.

وقال تعالى: {كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة}.

وقال تعالى: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}.

فإن كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ، وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة؛ لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله؛ سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو بعد ذلك.

وإذا كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر؛ فقد كتبه كله قبل أن ينزله.

والله تعالى يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وهو سبحانه قد قدر مقادير الخلائق وكتب أعمال العباد قبل أن يعملوها كما ثبت ذلك في صريح الكتاب والسنة وآثار السلف.

ثم إنه يأمر الملائكة بكتابتها بعد ما يعملونها؛ فيقابل به الكتابة المتقدمة على الوجود والكتابة المتأخرة عنه فلا يكون بينهما تفاوت؛ هكذا قال ابن عباس وغيره من السلف؛ وهو حق.

فإذا كان ما يخلقه بائنا منه قد كتبه قبل أن يخلقه؛ فكيف يستبعد أن يكتب كلامه الذي يرسل به ملائكته قبل أن يرسلهم به؟

كلام الله عند الفلاسفة:

بدّع أهلُ السنة والجماعة من قال: إن القرآن فاضَ على نفس النبي مِنَ العَقلِ الفَعَّالِ، أو غَيرِهِ؛ كالفَلاسِفَةِ والصَّابِئِيَّةِ.

فإن بعض الفلاسفة المسلمين؛ كابن سينا وأضرابه، والصابئة -وهم قوم يشبه دينهم دين النصارى-؛ زعموا أن كلام الله ليس له وجود، إلا في نفوس الأنبياء، تفاض عليهم المعاني من الروح، الذي هو العقل الفعال أو غير ذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية[4]: “فيقولون: هذا القرآن كلام الله وهذا الذي جاءت به الرسل كلام الله، ولكن المعنى أنه فاض على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من العقل الفعال، وربما قالوا إن العقل هو جبريل الذي ليس على الغيب بضنين أي بخيل؛ لأنه فياض.

ويقولون: إن الله كلم موسى من سماء عقله، وإن أهل الرياضة والصفا يصلون إلى أن يسمعوا ما سمعه موسى كما سمعه موسى.

وقد ضل بكلامه كثير من المشهورين؛ مثل أبي حامد الغزالي ذكر هذا المعنى في بعض كتبه، وصنفوا “رسائل إخوان الصفا” وغيرها؛ وجمعوا فيها على زعمهم بين مقالات الصابئة المتأخرين التي هي الفلسفة المبتدعة، وبين ما جاءت به الرسل عن الله؛ فأتوا بما زعموا أنه معقول ولا دليل على كثير منه، وربما ذكروا أنه منقول.

وفيه من الكذب والتحريف أمر عظيم، وإنما يُضلون به كثيرا بما فيه من الأمور الطبيعية والرياضية التي لا تعلق لها بأمر النبوات والرسالة لا بنفي ولا بإثبات؛ ولكن ينتفع بها في مصالح الدنيا: كالصناعات من الحراثة والحياكة والبناية والخياطة ونحو ذلك”اهـ.

 

[1]  رواه مسلم.

[2]  تفسير القرطبي (1/ 72).

[3]  مجموع الفتاوى (12/ 126).

[4]  مجموع الفتاوى (12/ 23).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *