لا شك أن السياسة والفكر والثقافة واللغة كلها تتساوق لتبرز إلى الوجود مشروعا كامل الأركان، تتبناه الدول وتخصص له الميزانيات، لأنها تضعه في رؤيتها الاستراتيجية، وتنظر إليه من وجهة المصلحة العائدة عليها منه اقتصاديا، فلا عجب إذا أن تستخدمه في التمكين لهويتها الخاصة وإلحاق الشعوب الضعيفة بها حضاريا.
ويتعدى الأمر عند الأمم القوية حدود بلادها، إذ ترى في دعم لغتها وثقافتها لدى الشعوب التي تربطها بها علاقات اقتصادية وتاريخية وسيلةً لتوسيع نفوذها في تلك البلدان الأمر الذي يعطيها امتياز التأثير على القرارات السياسية ومن ثَمّ الاستفادة أكثر من مقدرات تلك البلدان.
في هذا الإطار حظيت فرنسا بامتياز ثقافي إضافي، يمكنها من تنزيل مشروعها في الحفاظ على موقعها المتقدم والمهيمن على المشهد الإعلامي والثقافي والتعليمي في المغرب، حيث أبرمت ثانوية ديكارت الفرنسية بالرباط والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية مساء أول أمس الثلاثاء، اتفاقية شراكة لتوطيد علاقات التعاون بين المؤسستين في مجال تدريس اللغة والثقافة الأمازيغيتين، وخلال مراسيم التوقيع أشاد مسؤولو ثانوية ديكارت وممثل السفارة الفرنسية بالرباط، بالشراكة التي أصبحت تجمع بين المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية والثانوية المذكورة التي تنتمي إلى البعثة الثقافية الفرنسية، مؤكدين أنها لن تقتصر فقط على تعليم اللغة الأمازيغية، بل ستمكّن من الانفتاح على نحو أوسع، مستقبلا، على اكتشاف الثقافة الأمازيغية، عبر زيارة المناطق الناطقة بالأمازيغية في مختلف مناطق المغرب.
وللجميع أن يتساءل:
لماذا لم تهتم المؤسسات التعليمية التابعة للبعثة الفرنسية باللغة العربية وإتقانها، ولا بتمكين تلاميذها من الاطلاع على الثقافة العربية المغربية المتجذرة في المجتمع المغربي طيلة 15 قرنا؟
من يعرف العقل السياسي الفرنسي ونظرته للغة العربية، يعرف الجواب بالتحديد والتدقيق، ويعلم كيف استعملت فرنسا اللهجة البربرية في حرب اللغة العربية ونفوذ الإسلام وشريعته بين المغاربة المسلمين من أصول أمازيغية.
لقد كان قدرنا بالنسبة إلينا نحن المغاربة أن نعيش قرابة الخمسة عقود تحت نير الاحتلال الفرنسي، (من سنة 1907 احتلال وجدة والشاوية إلى 1956 تاريخ “الاستقلال”)، عملت خلالها السلطات الفرنسية على تفتيت القوة التي كانت تحتلها اللغة العربية في بنية الدولة السياسية والإدارية والقضائية، كما حاربت نفوذ العلماء ومؤسساتهم والدين الإسلامي الذي يعتبر الحامي والضامن لاستمرار اللغة العربية.
وبالمقابل كان لها مشروع ثقافي سياسي كبير بذلت له الميزانيات الطائلة والأموال الضخمة بسخاء وخصصت له خيرة كوادرها من باحثين وأكاديميين وضباط، تمحور هذا المشروع حول أصلين كبيرين هما:
– فصل العرب عن الأمازيغ، وربط الأمازيغ باللغة والثقافة الفرنسية.
– تجهيل العرب وفصلهم عن لغتهم وهويتهم، بإنشاء مدارس الأعيان لتخرج صعار الموظفين والحرفيين فقد حتى يكونوا خدما للفرنسيين المستوطنين، وليس فيها من المواد العربية شيء إلا بالقدر الذي يذر الرماد في الأعين فقط.
جاء في مجلة إفريقيا الفرنسية 1914؛ ص:36، ما يلي:
(قلنا في أكثر من لقاء بوجوب تعلم اللغة البربرية للذين يمثلون الحكومة بالمغرب في الداخل، ذلك أن التعامل مع البرابرة بلغتهم يعتبر أحسن وسيلة للحيلولة دون تعريبهم حتى يتفادى الخطأ الذي ارتكبناه في الجزائر.
من أجل تعلم البربرية تم فتح مدرسة بالرباط لتعليم البربرية إلى جانب العربية بواسطة قرار صدر في الثاني من دجنبر بإنشاء مدرسة اللغات الشرقية الحية، عبارة عن كرسي ومنصب معيد أهلي للبربرية.
البعض قال بأن تعليم البربرية تدبير نظري لاختلاف اللهجات، لكن المنطقة الفرنسية بالمغرب لا يوجد بها إلا فرعان للتعبير البربري، ونحن سنأخذ المحدد الذي سيسمح لمدرسة اللغات هذه باعتماد إطار مرجعي موحد عملي يساعد على اكتساب أسس التحدث بها على أن يتم إغناؤها بالممارسة في عين المكان، وقد وضع لذلك حوافز إدارية من حيث التعيينات في مناصب المراقبة المدنية للناطقين بها من الضباط في مراكز المراقبة المدنية)اهـ (1).
وبالفعل تأسست هذه المدرسة لتكوين الضباط الذين سيؤطرون عمل الإدارة الفرنسية في ربوع المغرب وخاصة المناطق الأمازيغية الخالصة، وقد تناولت الموضوع مجلة فرنسا -المغرب france-maroc ، في عددها 56 سنة 1922 تحت عنوان: “المدرسة العليا للغة العربية واللهجات البربرية بالرباط” جاء فيه:
“أرادت مصلحة الحماية الفرنسية بالمغرب عند بدايتها إنشاء ما تحتاج إليه من موظفين ضروريين لمعرفة عادات البلاد، فأصدر المقيم العام قرار إنشاء المدرسة العليا للغة العربية واللهجات البربرية بالرباط في 15/11/1912، وبدأ العمل بها في بداية سنة 1913 بدار في باب شالة بعدما جهزت إحدى غرفها بالمقاعد وجاء بتلامذتها من المدرسة العربية الفرنسية سيدي فاتح، ثم نقلت لباب لعلو حيث كان بالنزل ثلاث قاعات بإدارة جورج مرسي ومكتب للكاتب وأخر للمدير، وبدأ بناء مقر لها بحي أكدال في 15/4/1917، وفي 12/3/1913 صدر قرار وزيري بإنشاء أول اختبار للتراجمة الرسميين، وفي 22/9/1913 صدر قرار ثاني بإجراء اختبار بالجزائر لنفس الغرض، وفي 24/11/1913 تم إعلان قبول عشرة تلاميذ تراجمة رسميين و16 تلميذا مساعدا”اهـ.
تطور اهتمام فرنسا بما كانت تسميه اللهجات البربرية، واستصدرت باستمرار ظهائر ومراسيم وقرارات خادمة لمشروعها الفكري والثقافي واللغوي في المغرب، حتى توّجت ذلك بالظهير المعروف باسم الظهير البربري، واسمه الأصلي: (الظهير المنظم لسير العدالة في المناطق ذات الأعراف البربرية والتي لا توجد بها محاكم شرعية) والصادر في 17 ذي الحجة 1348 هـ/16 ماي 1930، الذي كان نقطة مفصلية في تعامل النخبة المغربية مع مشاريع الاحتلال الثقافية واللغوية والتعليمية والسياسية والتشريعية.
وهكذا انتقلت السياسة الفرنسية في المغرب من الثقافة واللغة إلى التشريع والقانون، وعندما نتحدث عن التشريع والقانون، فإننا نتحدث عن تغيير ستقوده فرنسا في المغرب يروم تعطيل الشريعة الإسلامية بالكامل، وفصل المغاربة عن هويتهم ودينهم الذي كان يحكم في المغرب طيلة تاريخه منذ كان دولة، أي طيلة 15 قرنا، وهو ما وقع بالفعل للأسف الشديد.
ويمكن اعتماد ما سبق ذكره في تفسير: لماذا رجعنا مرة أخرى إلى اعتماد اللغة الفرنسية لغة أساسية في قطاع التعليم بعد أكثر من 60 سنة من تبني مشروع التعريب الذي لقي معارضة فرنسية شديدة جيشت له كل مكامن نفوذها داخل المغرب وخارجه.
فهل تخلت فرنسا -اليوم- عن سياستها الثقافية المستهدفة العربية ودين المغاربة؟
وهل تغيرت أهداف مشاريعها التعليمية في مؤسسات بعثتها الثقافية بالمغرب؟
وإذا علما أن هذه المؤسسات هي المورد البشري الأساس الذي يمد الإدارة المغربية والمؤسسات الكبرى بالأطر، حيث تضم ضمن صفوفها أبناء النافذين من النخب السياسية والإدارية، ألا يجدر بممثلي الشعب أن يسائلوا الحكومة عن مسوغ النفوذ الفرنسي الثقافي والتعليمي المهيمن على المشهد العام بالبلاد؟
ولأننا على يقين ألا شيء تغير، نفضل أن نورد كلاما لـ”بول مارتي 1882-1938” يشرح فيه هُوِيَّة نوع التعليم الفرنسي في المغرب وأهدافه قائلًا:
“لقد حصل الاتِّفاق بين إدارة التعليم العمومي وإدارة الشؤون الأهلية، وتحدَّدت بذلك مبادئ سياستِنا التعليمية البربرية، بكامل الدقة، إن الأمر يتعلَّق هنا بمدارس فَرنسية – بربرية، مدارس تضم صغار البربر، يتلقَّون فيها تعليمًا فَرنسيًّا محضًا، ويسيطر عليها اتجاه مهني، فلاحي بالخصوص، إن البرنامج الدراسي يشتمل على دراسة تطبيقية للغة الفَرنسية، لغة الحديث والكلام، بالإضافة إلى مبادئ الكتابة والحساب البسيط، ونُتَف من دروس الجغرافية والتاريخ، وقواعد النظافة، ودروس الأشياء…، إن أي شكل من أشكال تعليم العربية، وإن أي تدخل من جانب الفقيه، وإن أي مظهر من المظاهر الإسلامية – لن يجد مكانَه في هذه المدارس؛ بل سيُقصى بكل صرامة…”(3).
فمن خلال كلام هذا المنظر السياسي والأكاديمي الفرنسي المتميز، يتبين أن معاداة العربية واستغلال التنوع العرقي في المغرب هما المدخل والأساس للسياسة الثقافية واللغوية للحكومة الفرنسية في المغرب.
الروح نفسها نلمسها في كلام المستشار الثقافي المساعد بالسفارة الفرنسية بالرباط والذي أدلى به خلال توقيع الاتفاقية المذكورة حيث قال: “إن قوة المؤسسات التعليمية الفرنسية في الخارج، ومنها ثانوية ديكارت بالمغرب، تكمن في ربطها بين الثقافة واللغة الفرنسية وبين ثقافة ولغات البلد الذي تتواجد فيه”؛ ثم أشار إلى أن “البعثة الدبلوماسية الفرنسية تعتزم، على المدى المتوسط، تعميم مقاربة الانفتاح على اللغة والثقافة الأمازيغيتين، معتبرا أن هذا الانفتاح يعدّ مصدر غنى بالنسبة للتلاميذ والأطر التربوية بالمؤسسات التعليمية الفرنسية بالمغرب”.
ومن الموافقات الحزينة أنه في اليوم نفسه (أول أمس الثلاثاء 29 يونيو 2021) الذي عقدت فيه الاتفاقية بين الجهات الفرنسية والمعهد الملكي للأمازيغية، يصدر عن البنك الدولي تقرير بعنوان “النهوض بتعليم اللغة العربية وتعلمها؛ مسار للحد من فقر التعلم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، وكشف هذا التقرير أن “معدل فقر التعلم في المغرب يناهز 66 في المائة، ما يعني أن أكثر من نصف الأطفال المغاربة لا يمكنهم قراءة نص مناسب لأعمارهم وفهمه وهم في سن العاشرة، وأكد التقرير على أن “معدل فقر التعلم يؤدي إلى قصور في تعلم معظم الأطفال وإعاقة تقدم البلاد في مجال تكوين رأس المال البشري”.
فإذا كان هذا هو حال تلاميذ المغرب وأبنائه ومستوى جودة نظامه التعليمي، وإذا كانت تلك هي سياسة فرنسا الثقافية التعليمية في المغرب فإن الهوية المغربية بشكل عام في خطر داهم، وسيزيد هذا الخطر حدة إذا علمنا الميزانية التي رصدت والأهداف التي حددت للمنظمة الفرانكوفونية من أجل تقويتها، خصوصا وأن المغرب سيخرج بعد مرحلة كورنا أكثر ضعفا. وهل يمكن أن نتفاءل في وضع مثل هذا بنموذج تنموي قام بوضعه مَن هم محسوبون على تلاميذ وخريجي التعليم الفرنسي وأشد حبا للثقافة الفرنسية من الفرنسيين أنفسهم؟
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نقلا عن مقال للأستاذ إدريس كرم نشر بموقع هوية بريس.
(2) بول مارتي من أكبر رجالات الاحتلال الفرنسي في دول المغرب العربي وإفريقيا، انضم إلى مكتب شؤون السكان الأصليين في تونس حتى عام 1907، وأقام في الدار البيضاء من عام 1907 إلى عام 1911. في عام 1912، انضم إلى داكار وأصبح رئيس دائرة شؤون المسلمين التي تم إنشاؤها في إطار الحكومة العامة لغرب إفريقيا الفرنسية في عام 1913. من عام 1922 حتى عام 1925، أدار الكلية الإسلامية بفاس. في عام 1925، التحق بمصلحة شؤون المواطنين بالرباط، ثم تولى منصب مديرها عام 1930. وفي عام 1935، غادر الرباط إلى تونس.
(3) محمد عابد الجابري، أضواء على مشكل التعليم في المغرب، ص: 30-31.