تحقيق (صفحتان) المكي الترابي.. نحو فهم الظاهرة حماد القباج

لقد تكلمت عن هذا الرجل قبل ثلاث سنوات في محاضرة بعنوان: “تحذير المغربيات من دجال الصخيرات”، ثم رأيته يتنقل بين دول العالم ليفتن عوام الناس، كما تمكن من التلبيس على بعض المنتمين إلى الدراسات الإسلامية؛ فشعرت بواجب كتابة مقالة مفصلة في الموضوع.

الظاهرة:
رجل يُدعى المكي الترابي يزعم أنه يشفي من جميع الأمراض بمصافحة أصحابها ولمس القارورات التي يصطحبونها!
يقول عن نفسه: (أُسَلم على الشخص بيدي وإذا كان مصابا بالسرطان أحِس بأن قوة خارقة تنطلق من يدي اليمنى وتدخل إلى جسمه، واليد الأخرى فيها بركة قوية تقضي على السحر).
قال: (وإذا كان المريض في مكان بعيد كالولايات الأمريكية فإنه يشفى بلمسي لصورته). وقال: (في اليد اليسرى مفاتيح جميع أنواع الجن والثقاف والتوكال والعين أما اليد الأخرى ففيها جميع أنواع الأمراض بما فيها السرطان وتقريبا شفي 600 شخص على يدي)اهـ.
ثم اكتشف المكي فجأة أن طاقته الخفية قادرة على التأثير في دائرة شعاعها 50 مترا، ولا تشترط المصافحة، فيكتفي في شفائه للمريض بالتلويح إليه من بعيد.
“وليس السرطان والسيدا وحدها هي ما يدعي المكي أنه قادر على معالجتها، بل يؤكد أيضا أن بإمكانه معالجة الشلل والعقم والعمى وأمراض أخرى مستعصية، قال: “يمكن مداواة العقم؛ وقد نجحت في معالجة عدة مرضى بالعقم في أوربا، يوضح المكي” .
وهذه الادعاءات ثابتة عنه لاستفاضتها في صحف وطنية ، مع تعدد الناقلين عنه لذلك من الصحافيين وغيرهم؛ ومنهم أخونا الأستاذ محمد القريفي الذي زار الرجل ونشر مشاهداته عنه في “أسبوعية السبيل المغربية” (ع 43).
وقد سألته “مجلة أوال” السؤال التالي:
“متى أصبحت تعالج الناس؟”
فأجاب:
“عندما بلغت من العمر 50 سنة، أصبحت أفكر في مصيري في حال ما إذا لم أفد الناس من هذه القدرة الإلاهية، خفت من أن يعذبني الله ويحاسبني على عدم إخراج هذه الطاقة، لكني تخوفت من نعتي بالدجال والمشعوذ، لأن هناك أشخاصا ليست لديهم ضمائر.
ظللت محبوسا لمدة ثلاثة أشهر، لم أكن آكل أو أشرب إطلاقا، قبل أن أستشعر أن طاقة دعتني إلى إخراج هذه القدرة وأرتني كيف أفعل.
تقصد بالطاقة الجن؟
لا، ليس الجن، لأن الجن يعادون البشر، على خلاف ما يقول بعض الفقهاء الذين لا أعترف بهم، أنا ولي الله، والوهابيون كلهم للنار لأنهم لا يؤمنون بالرسول، لأنهم تبعوا عبد الكريم الوهابي (يقصد محمد بن عبد الوهاب)”اهـ
قلت: وقد بدأ هذا الرجل نشاطه في الشهر الأول من عام 2006 بساحة (بوعيبة) بمدينة (تمارة) في المغرب، ثم انتقل إلى منطقة (أولاد عثمان) من ضواحي مدينة (الصخيرات).
وكان يحتشد يوميا بضيعته في المنطقة المذكورة عدد كبير يتراوح بين 4000 و12000، وقد يصل أحيانا بتصريحه إلى 20000.
ثم انتقل إلى عدد من الدول؛ كالبوسنة وفرنسا والسعودية!
ومن أقوال بعض من ادعى أنه استشفى به فشُفيَ:
قول امرأة: “أنا تزوجت منذ سنوات ولكنني لم أستطع الإنجاب ودلني بعض المعارف على الشريف المكي الذي حضرت عنده لأيام معدودة وأنا الآن حامل في شهري الثاني ..إنني مندهشة”.
وقد ادعى أنه عالج رؤساء دول وملوك ورياضيين ومشاهير ..

والتساؤل الذي نبدأ به تناول موضوع فهم الظاهرة: ما حقيقة ما يفعل هذا الرجل؟
يقول الترابي: البركة!
وهو الاحتمال الذي لم يستبعده الأستاذ أحمد البوكيلي (أستاذ الفكر الإسلامي بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة).
قال: “الأمر وارد، وينسجم مع مرجعية وثقافة سائدة متأسسة على مفهوم التبرك”اهـ.
قلت: البركة الجسدية مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولو كانت لغيره لكان صحابته رضي الله عنهم أولى الناس بها، وهم أفضل هذه الأمة علما وفقها وتقوى وخشية لله، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ..
ولم يُرْو أنهم كانت لهم بركة جسدية حسية، يتبرك بها الناس، فهل الترابي هذا أفضل منهم يا ترى؟!
ثم أفاضل التابعين والأئمة أولى بالأمر -لو كان ممكنا- بعد الصحابة؛ وهل هناك عاقل يعتقد أن تكون للترابي بركة لم تكن للحسن البصري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومالك والشافعي وأحمد وابن المبارك وابن عيينة والفضيل بن عياض وسهل التستري ..؟!
قال الشاطبي: “لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، فهو كان خليفتَه، ولم يُفعل به شيءٌ من ذلك، ولا عمر -رضي الله عنه، وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركاً تبرك به، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسِّير التي اتبعوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو إذاً إجماع منهم على ترك تلك الأشياء”اهـ

فإن قيل: لم لا يكون حال (الترابي) كرامة ولي؟
وقد جزم هو أنه ولي الله!
قلت: الكرامة بمعناها الشرعي العام هي: ما يهب الله لعبده من خيري الدين والدنيا؛ من استقامة وعافية ومال حلال وزواج صالح .. إلـخ.
ومعناها في الاصطلاح: “الأمر الخارق للعادة، ينفع الله به المؤمن التقي”.
وإثباتها بهذا المعنى من عقيدة أهل السنة والجماعة، خلافا للمعتزلة والعقلانيين.
قال الطحاوي: “وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ، وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ”اهـ
والولي في كتاب الله هو المؤمن التقي؛ قال الله سبحانه: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 – 63]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وَإِذَا كَانَ ” أَوْلِيَاءُ اللَّهِ” هُمْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فَبِحَسَبِ إيمَانِ الْعَبْدِ وَتَقْوَاهُ تَكُونُ وِلَايَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى؛ فَمَنْ كَانَ أَكْمَلَ إيمَانًا وَتَقْوَى كَانَ أَكْمَلَ وِلَايَةً لِلَّهِ.
فَالنَّاسُ مُتَفَاضِلُونَ فِي وِلَايَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى”
وكثير من الناس “يَعُدُّونَ مُجَرَّدَ خَرْقِ الْعَادَةِ لِأَحَد كَرَامَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا الْكَرَامَةُ لُزُومُ الِاسْتِقَامَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكْرِمْ عَبْدًا بِكَرَامَةٍ أَعْظَمَ مِنْ مُوَافَقَتِهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَهُوَ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، وَمُوَالَاةُ أَوْلِيَائِهِ، وَمُعَادَاةُ أَعْدَائِهِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الذين لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون”.
قال: “فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ الْخَوَارِقِ عِلْمًا وَقُدْرَةً لَا تَضُرُّ الْمُسْلِمَ فِي دِينِهِ، فَمَنْ لَمْ يَنْكَشِفْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ ، وَلَمْ يُسَخَّرْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْكَوْنِيَّاتِ – : لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ فِي مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ ، بَلْ قَدْ يَكُونُ عَدَمُ ذَلِكَ أَنْفَعَ لَهُ ، فَإِنَّهُ إِنِ اقْتَرَنَ بِهِ الدِّينُ وَإِلَّا هَلَكَ صَاحِبُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَإِنَّ الْخَارِقَ قَدْ يَكُونُ مَعَ الدِّينِ ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ عَدَمِهِ ، أَوْ فَسَادِهِ ، أَوْ نَقْصِهِ.اهـ.
فلا يشترط في الولي أن تخرق له العادة، وليس كل من خرقت له العادة وليا.

فلننظر إلى حال المكي هل ينطبق عليه وصف المؤمن التقي؟
قلت:
– لقد تواترت الأخبار عنه أنه يفرط في الصلوات؛ وممن نقل الخبر أحد إخواننا الثقات الذي ذهب إلى عين المكان ورآه يقوم بعمله في أوقات الصلوات، واستفاض الخبر بذلك عن كثير من أهل المنطقة، وأكده كثير من كتاب الصحافة.
– ومما استفاض عنه أيضا: كثرة السب واللعن.
– حلق اللحية: وهو من الكبائر عند الأئمة الأربعة، وقد أمر الله تعالى بإعفائها.
قال في “منح الجليل شرح مختصر خليل”: “وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ حَلْقُ اللِّحْيَة”اهـ.
– ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلم يعرف بدعوة الناس المخالفين إلى توحيد أو سنة أو استقامة.
– الكذب: ومثاله زعمه أن من لم يأته بـ(الفتوح) فلا شيء عليه، وأنه يعالج مجانا؛ بينما صرحت إحدى الصحافيات أنها مثلت دور عاجزة عن الإتيان بالقربان فزجرها ولم يعالجها.
– تكفير دعاة التوحيد: وقد تقدم قوله: “الوهابيون كلهم للنار لأنهم لا يؤمنون بالرسول”!!
– والطامة الكبرى: سب الرب جل وعلا!!!
وقد سمعه عدد كبير، وأثبته الأخ القريفي في تحقيقه المنشور بجريدة السبيل، وقد صرح أنه سمعه بأذنه.
ونقل ذلك الضلال عن الرجل؛ مجموعة من الصحافيين في جرائدهم.
فهل من تصدر منه هذه الدواهي والموبقات ولي الله؟!!
قال شيخ الإسلام: “فَمَنْ أَظْهَرَ الْوِلَايَةَ وَهُوَ لَا يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَلَا يَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ بَلْ قَدْ يَأْتِي بِمَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ هَذَا وَلِيٌّ لِلَّه”.
وقال أيضا: “هَذِهِ الْخَوَارِقَ تَكُونُ لِكَثِيرِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ وَتَكُونُ لِأَهْلِ الْبِدَعِ وَتَكُونُ مِنْ الشَّيَاطِينِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ؛ بَلْ يُعْتَبَرُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ بِصِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَيُعْرَفُونَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ وَبِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ”اهـ
قلت: وهذا هو حال الدجال الأكبر؛ الذي أخبر عنه عليه الصلاة والسلام أنه يتحرك بسرعة خارقة، وأنه يأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، وأن معه نهران، وأنه يقتل شابا ثم يأمره بالقيام فيقوم حيا..
قلت: فثبت بهذا أن حال المكي ليس من جنس كرامات الأولياء؟

فما تفسير حقيقة حاله؟
قلت: إما سحر حقيقي، وإما تحايل وخداع وتلبيس؛ وهو نوع من السحر.
– فإما أنه يؤثر فعلا التأثير المزعوم؛ فهذا سحر.
وهذا لا يمكن أن يطرد بل يقع أحيانا نادرة، وبقاؤه ببقاء السحر، وما يتحقق من علاج مزعوم؛ ضرره أكثر من نفعه:
قال في (الاقتضاء): “ويكفي العاقل أن يعلم أن ما سوى المشروع لا يؤثر بحال فلا منفعة فيه، أو أنه وإن أثر فضرره أكثر من نفعه”.
وقال: “وجميع الأمور التي يظن أن لها تأثيرا في العالم وهي محرمة في الشرع؛ كالتمريجات الفلكية والتوجهات النفسانية؛ كالعين والدعاء المحرم والرقية المحرمة والتمريجات الطبيعية ونحو ذلك؛ فإن مضرتها أكثر من منفعتها حتى في نفس ذلك المطلوب، فإن هذه الأمور لا يطلب بها غالبا إلا أمور دنيوية، فقل أن يحصل لأحد بسببها أمر دنيوي إلا كانت عاقبته في الدنيا عاقبة خبيثة، دع الآخرة .. ثم إن فيها من النكد والضرر ما الله به عليم.
فهي في نفسها مضرة لا يكاد يحصل الغرض بها إلا نادرا، وإذا حصل فضرره أكثر من منفعته”اهـ

إذا ظهر هذا؛ فما معنى السحر؟ وما حقيقته؟
السحر في اللغة هو عبارة عما خفي ولطف سببه.
وأما تعريفه شرعا فهو: استخدام الشياطين والاستعانة بها لحصول أمر بواسطة التقرب لذلك الشيطان.
فهو استخدام للشياطين في التأثير، ولا يمكن للساحر أن يصل إلى إنفاذ سحره حتى يكون متقربا إلى الشياطين، فإذا تقرب إليها خدمته بأن أثرت في بدن المسحور؛ ولهذا كان السحر شركا بالله تعالى.
حكم تعلمه والعمل به:
الشرك أكبر الكبائر، وهو ذنب لا يغفر:
قال الله سبحانه عن سحر هاروت وماروت: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} [البقرة102].
فدل ذلك على أن مجرد تعلم السحر كفر، فكيف بالعمل به.
وبهذا أخذ إمامنا مالك؛ فقال: الساحر حده القتل ردة :
قال في منح الجليل شرح مختصر خليل (ج19/ص361):
“عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: السَّاحِرُ كَافِرٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا سَحَرَ هُوَ بِنَفْسِهِ قُتِلَ، وَلَا يُسْتَتَاب”اهـ.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (ج 2 / ص 480):
“هَؤُلَاءِ تَقْتَرِنُ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ وَتَنْزِلُ عَلَيْهِمْ فَيُكَاشِفُونَ النَّاسَ بِبَعْضِ الْأُمُورِ وَلَهُمْ تَصَرُّفَاتٌ خَارِقَةٌ مِنْ جِنْسِ السِّحْرِ وَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ الَّذِينَ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ؛ قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيم يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}.
وَهَؤُلَاءِ جَمِيعُهُمْ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إلَى الْمُكَاشَفَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ فَلا بُدَّ أَنْ يَكْذِبُوا وَتُكَذِّبَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ، وَلا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ مَا هُوَ إثْمٌ وَفُجُورٌ مِثْلُ نَوْعٍ مِنْ الشِّرْكِ أَوْ الظُّلْمِ أَوْ الْفَوَاحِشِ أَوْ الْغُلُوِّ أَوْ الْبِدَعِ فِي الْعِبَادَةِ؛ وَلِهَذَا تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ وَاقْتَرَنَتْ بِهِمْ فَصَارُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ لا مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِين}”اهـ

الاستعانة بالجن:
وقد بين الله تعالى أن شياطين الجن يقدمون هذه الخدمات للإنس:
قال سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الاِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}. (128).
قال البغوي: “اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ؛ مَا كَانُوا يُلْقُونَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَرَاجِيفِ وَالسِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَتَزْيِينُهُمْ لَهُمُ الْأُمُورَ الَّتِي يَهْوُونَهَا، وَتَسْهِيلُ سَبِيلِهَا عَلَيْهِمْ، وَاسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ طَاعَةُ الْإِنْسِ لَهُمْ فِيمَا يُزَيِّنُونَ لَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْمَعَاصِي”اهـ.
قال ابن الجوزي: “والمراد بالجن في هذه الآية: الشياطين”اهـ.
وتأملوا معي عظم ضلال قول الترابي: (في اليد اليسرى مفاتيح جميع أنواع الجن)!!
فإنه يتنافى مع قول الله تعالى عن النبي سليمان عليه السلام: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي}.
وقد كان من ملكه الذي لن يكون لأحد من بعده؛ أن له سلطة على الجن.
– وأما إذا كان عمل المكي من جنس التحايل واستغلال الحال النفسي للمرضى واستعمال مكر الدعاية؛ كتأجير أشخاص يمثلون أنهم عولجوا بذلك وأنهم معجبون بالمكي؛ فهذا من الكذب والدجل وأكل أموال الناس بالباطل بل فيه إضرار بدينهم حيث يجعلهم يعتقدون أمورا باطلة سيحاسبون عليها لتفريطهم في تعلم عقيدتهم.

فأقول للمبتلين بالاستشفاء بهذه الوسائل:
اتقوا الله؛ فإن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم.
وما تتوهمونه شفاء إنما هو تخييل مؤقت بوقت بقاء السحر إن كان سحرا حقيقيا، وإما تحولات نفسية توهم تحولات جسدية، وإما موافقة للقدر، وليس شفاء لا يغادر سقما، فهذا الشفاء إنما هو من الله بما أنزل من الآيات المباركة وبما خلق من الأسباب المشروعة كالطب:
قال إمام الموحدين الخليل إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80-81] .
والمسلم يربط قلبه بالله ويعلم أن أعظم مطلوب أن يرضى الله عنه؛ فإذا أنعم عليه ربه شكر وإذا ابتلاه صبر، وسأل خالقه العافية والسلامة وسلك الوسائل المشروعة للوقاية من الآفات؛ كالذكر والتعوذ بالله وتطييب المطعم وتقليله.
فإذا مرض التمس العلاج المشروع؛ فإن شفي وإلا فالله يفعل ما يشاء ويتصرف في عباده بما يشاء وله الحكمة البالغة؛ فقد يكون البلاء خير له وأنفع من العافية؛ كأن تكون له درجة رفيعة في الآخرة لا يصلها إلا بذلك الابتلاء، ومن أحسن الظن بالله فاز وكانت له العاقبة الحميدة، ولو اطلعتم على الغيب لوجدتم ما فعل ربكم خيرا، وإنما أُتي الناس من ضعف الإيمان بالله واليوم الآخر، وإيثار الدنيا على الآخرة؛ وهو رأس الشرور فإنه يحرص على دنياه حرصا ينسى به دينه؛ فلا يتعلم الحرام والحلال، وإذا علم أن الشيء الفلاني حرام لم يتورع عنه لأنه يحب العاجلة ويذر الآخرة ..
ومن أسباب تفشي هذه الظاهرة بالإضافة إلى ضعف التدين والجهل بالمعتقد الصحيح؛ عدم العلم بالرقية الشرعية أحكاما وآدابا وأسرارا نفسية وقلبية:
عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر، فقال: “ما هذا؟”.
قال: من الواهنة.
فقال: “انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا؛ فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا” .
وعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ”.
قَالَتْ: لِمَ تَقُولُ هَذَا؟ وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ (أَيْ تَرْمِي الدَّمْع مِنْ الْوَجَع) وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ يَرْقِينِي (رقية شركية يهودية) فَإِذَا رَقَانِي سَكَنَت !
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّمَا ذَاكَ عَمَلُ الشَّيْطَانِ؛ كَانَ يَنْخُسُهَا بِيَدِهِ (يَطْعَنهَا)، فَإِذَا رَقَاهَا كَفَّ عَنْهَا، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا”. [رواه أبو داود وصححه الألباني].
فهذا دعاء عظيم، لكن يحتاج إلى توكل وصدق وتحقيق لشروط الاستجابة وارتفاع الموانع.
قوله: “رب الناس”: ملكهم المتصرف فيهم بما شاء؛ من إحياء وإماتة وشفاء ورزق وغير ذلك.
قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
قوله: “أنت الشافي”: حقيقة؛ بقولك للشيء كن فيكون، وبما خلقت من الأسباب كالمواد والعقول والعلوم.
قوله: “لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ”: الذي شرعت وارتضيت، وغيره توهمات وتخيلات.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *