المؤسسات الدينية داخل المنظومة السنية أية مسؤولية؟ و أية فعالية؟ وهل من مشروع؟ أبو عبد الرحمن ذوالفقار

المؤسسات الدينية بين وظيفة الوعظ ومهمة التنفيذ
في العدد السابق كنا قد تكلمنا عن ضرورة إصلاح المؤسسات التعليمية(1)، لما تعانيه مجتمعاتنا السنية في واقعها من أزمات جراء ضعف مفعول مناهج هذه المؤسسات نتيجة غياب العنصر الديني، وعجز برامجها عن الارتقاء بأبناء مجتمعها إلى مستوى الحياة في حدود إسلام مجتمعهم. وبما أن المؤسسات الدينية والمجالس العلمية في عالمنا الإسلامي، وما لها من رابط العلم والتعلم يجمع بينها وبين المؤسسات التعليمية، وما أنيط بها من مهمة تفعيل الموروث الديني في سائر مكونات المجتمع. يجعل حجم ما عليها من ثقل تبعة استنقاذ الناس يعادل أضعاف ما على المؤسسات التعليمية. إنها مهمة أضخم وتكليف أعظم وواجب أثقل يستلزم من مؤسسات هذه وظيفتها أن تستجمع من الصفات ما تجعل منها مؤسسات مؤهلة لمهمة الإشراف والرقابة والحفاظ على سير الأمة في إطارها السني، وصيانة المجتمع من كل انحراف وشر ومن جميع عوامل الفساد.
إنها مؤسسات لها وظيفة ذات دور خاص، مهمتها تقوم على أساس إقامة ثم حراسة شريعة الله في الأرض، وتغليب الحق على الباطل، والمعروف على المنكر، والخير على الشر. مؤسسات لا تحدد وظيفتها دولة ولا شعب ولا مجتمع، وإنما الذي يحدد وظيفتها هو قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(2). إنها وظيفة ناشئة من صريح الآية عن دعوة العباد وتعليمهم الخير، وأمرهم وتكليفهم بفعله، مع نهيهم وزجرهم عن اقترافه. فهي ليست مؤسسات وعظ وإرشاد وبيان فحسب. إنما هذا الأمر هو شطر منها؛ وليس هو كل الوظيفة. وشطرها الآخر يكمن في قوله تعالى “وَيَأْمُرُونَ” “وَيَنْهَوْنَ”، وهذا يستلزم منها تنفيذها لذاك الخير وتفعيلها له في المجتمع. مما يقتضي أن تكون لهذه المؤسسات قوة تمكنها من تحقيق وحماية كل ما هو خير أو معروف، ونفي واجتثاث كل ما هو شر أو منكر، فإنه لا ينفع وعظ بخير لا نفاذ له. فقوله تعالى: {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}، يفيد أن حقيقة الدعوة قوة في العلم وقوة في التنفيذ.
دور المؤسسات الدينية بين الإقصاء والتقاعس
من ظن أن المؤسسات الدينية ينحصر دورها – كما يتوهم بعضهم وقنع به أو كما يريد لها بعض “آخر”- في البلاغ والمحراب والمنبر والمسجد وشؤون العبادة، ولا شأن لها بفن ولا اقتصاد ولا سياحة ولا سياسة ولا تشريع ولا سائر دنيا الناس، فقد تَعَلْمَنَ وأخطأ فهم الإسلام. وإن مؤسسات دينية في مجتمعات سنية ليس لها لجان مكونة تكوينا شرعيا أو سلطة رقابية على نسبة مفعول برنامجها السني في التعليم وإنشاء برامجه، ولا لها سلطة رقابية على نسبة مفعول برنامجها السني في الفن من حيث ما يجوز بثه للمشاهد وما لا يجوز، ولا لها سلطة رقابية على إعلام، ولا على ثقافة، ولا سياحة، ولا اقتصاد، ولا يؤخذ رأيها مأخذ الجد في مثل قضايا الحريات؛ حتى بات الفجور والعصيان قضية شخصية! كما لا يرجع إليها في مسائل حقوق الإنسان، ولا يعرف لها موقف واضح من قضية التطبيع مع الصهاينة، …، وإذا ما كان هذا هو واقع مؤسساتنا الدينية داخل المنظومة السنية، فمن الطبيعي أن تكون المؤسسات المشاركة بدورها في بناء المجتمع غير منضبطة بضابط الفكر الذي تتبناه البلاد.
ومن ثم لا غرابة إذ ذاك أن يكون عندنا قنوات فضائية رسمية خارج تغطية المؤسسات الدينية، تبث برامج تحمل عكس مبادئ وثقافة وقيم مجتمعاتنا؛ أفلام مكسيكية تحطم الفضيلة، وأخرى تركية وصينية تعمل على إشاعة الفاحشة، وأغاني لبنانية كلها حب وعشق وتغزل وغرام، وتبرج وتفسخ وحرام، وصحف تحمل صور نساء عاريات وأجساد مكشوفة، ثم نتساءل عن سر هذه الفوضى الجنسية العارمة وهذا الدنس البهيمي؟!!!
إنه لا غرابة في ظل غياب رقابة لجان تؤمن بمشروع إسلامي سني أن يكون تعليمنا يعاني من قلة المواد الدينية، بل القليل منها يتم تفريغه من كل شحن إيماني يحيي القلب ويهذب النفس، إلى أن بلغ الحال بأبناء إعدادياتنا وثانوياتنا إلى ما بلغ بهم من مستوى هابط من الانحلال والتلوث الأخلاقي.
ثم لا غرابة أيضا في ظل غياب رقابة شرعية أن يكون اقتصادنا يعتمد على الربا ويبني مداخيله على عائدات تجارة الخمور وأنشطة مؤسسات القمار ورسوم السجائر. لا غرابة ثم لا غرابة في ظل هذا الغياب أن تكون مجتمعاتنا بأغلب فعالياتها ومكوناتها لا تأثير لدينها الرسمي ولا تفعيل لمذهبها السني في حركة حياة مؤسساتها وأفرادها. ولاشك أن الأمة في مثل هذا الواقع هي أحوج ما تكون من علمائها إلى أكثر من مجرد شجب أو إصدار بيان، حتى تسترجع مكانتها وتثبت مصداقيتها وتستعيد قوة تأثيرها في المجتمع.
لنكن صرحاء!
أليس انزواء المؤسسات الدينية إلى الزاوية وتسليمها لمقاليد دنيا مجتمعاتها هو رهبنة منها وتكريس لسياسة فصل الدين عن الحياة؟
هل لها من مشروع يجمع بين الشرعي والسياسي، وذلك باعتبارها مؤسسات دينية تمارس وظيفتها داخل دولة سياسية؟
هل مؤسساتنا الدينية مسلوبة الحقوق أم هي المتقاعسة عن أداء واجبها؟
روى النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَثَلُ القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا (3).
إن صلاح المجتمعات ذات التوجه السني أو فسادها رهن قيام مؤسساتها الدينية بواجب ما استُحفِظت عليه من كتاب الله وموروث نبيها صلوات الله وسلامه عليه، من أمر بمعروف ونهي عن منكر. فهي مؤسسات أمينة الله في أرضه، ومصباحه الذي يستضاء به في ظلماء الفتن، وصمام الأمان من البلايا والمحن، هذا ما اقتضته سنة الله، أنه إذا وجد الفساد فلا بد من أن يوجد من ينهض لدفعه {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} (4)، وانظر قوله سبحانه: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ}(5).
إنها وظيفة القيام بمهمة تنظيم حياة المجتمعات الإسلامية على أصل العبودية لله، وهي مهمة تقتضي ألا تعمل المؤسسات الدينية بمعزل عن غيرها من المؤسسات في إدارة شؤون المجتمعات السنية، فلا تكاد ترى مؤسسة سواء كانت تعليمية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو إعلامية…، إلا وعليها أثر إسلامي، وهيمنة مرجعية سنية البلد الذي تنتمي إليه. إنها وظيفة إشراف ورقابة قصد تحقيق عبودية الله في إطار تسنن اجتماعي. يحفظ مبادئ المجتمع، ويحمي هويته، ويصون سيره من الانحراف. وإلا أصبح المنكر عرفاً، وصار الانحراف أمرا سهلاً، فتشيع حينها الفاحشة في أرجاء المجتمع. فيعم والعياذ بالله البلاء والهلاك {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (6).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مقال تحت عنوان “المؤسسات التعليمية داخل المنظومة السنيـة أية مسؤولية؟ وأية فعالية؟ وهل من مشروع؟” تجده على الشبكة العنكبوتية (الأنترنيت) ابحث عنه عبر برنامج google.
(2) سورة آل عمران الآية 104.
(3) صحيح البخاري تحت رقم 2313 باب هل يقرع في القسمة.
(4) سورة هود الآية 116.
(5) سورة المائدة الآية 63.
(6) سورة هود الآية 117.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *