عكفتُ منذ شَهر ونيِّفٍ على قراءة كتاب (مفردات ألفاظ القُرآن) للإمام الحسين بن محمد بن المفضّل الرّاغب الأصفهاني المتوفى في حدود سنة 425هـ، فوجدت فيه الفائدة المرجوة، والمتعة التي تهفو إليها نفوس طلاّب علم اللغة والأدب، فكنتُ لا أمرّ على صفحة من صفحاته المثقلة بالدّرر إلاّ إذا استوفيت حظّي من قراءتها والاستمتاع بما فيها، وقد تجمّع في مذكّرتي شيء كثير من المعلومات والفوائد والدّرر اللغوية والقرآنية والبلاغية التي جاد بها قلم هذا العلاّمة المُبهر، فرأيتُ أنّ من المفيد أن أجمعها وأنشرها في هذه الجريدة المُوفّقة لتعمّ الفائدة وتنتشر المتعة بين متتبعيها.
وقد اعتمدت في قراءته على أجود طبعة له، لدار القلم بتحقيق صفوان عدنان داوودي، وإن كنتُ أعتب عليه عدم تعليقه على أشعرية المؤلف، وتأويله لجميع صفات الله تعالى.
دهــر
الدَّهْرُ في الأصل: اسمٌ لمدّةِ العالَمِ من مبْدَأِ وُجُودِهِ إلى انْقِضائِهِ، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى علَى الإِنْسانِ حينٌ من الدّهْرِ﴾ (الدهر1)، ثُمَّ يُعَبَّرُ به عن كلِّ مُدّةٍ كثيرةٍ، وهو خلافُ الزمانِ، فإنَّ الزّمانَ يقعُ على المُدَّةِ القليلةِ والكثيرةِ، ودَهْرُ فلانٍ: مدّةُ حياتِهِ، واستُعيرَ للعادةِ الباقيةِ مُدَّة الحياةِ، فقيل: مَا دَهْرِي بكذا، ويُقال: دَهَرَ فُلانًا نائبةٌ دهْرًا، أي: نزلتْ به، حكاه (الخليلُ)، فالدّهْر ها هنا مصدرٌ، وقيل: دَهْدَرَهُ دَهْدَرةً، و دَهْرٌ دَاهِرٌ ودَهِيرٌ.وقولُه عليه الصلاة والسلام: “لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فإنَّ الله هو الدَّهْرُ ” قد قيلَ معناهُ: إنّ اللهَ فاعلُ ما يُضافُ إلى الدّهْرِ من الخيْرِ والشّرِّ والمسرَّةِ والمَسَاءَةِ، فإذا سَبَبْتُم الذي تَعْتَقدونَ أنّهُ فاعلُ ذلك فقد سبَبْتُمُوهُ تعالى عنْ ذلك. وقال بعضهم: الدّهْرُ الثاني في الخبَر غيرُ الدّهرِ الأوّل، وإنّما هو مصدرٌ بمعنى الفاعل، ومعناهُ: أنّ اللهَ هو الدّاهِرُ، أي: المُصرِّفُ المُدبِّرُ المُقيَّضُ لِما يحْدُثُ، والأولُ أظهرُ. وقوله تعالى: ﴿ما هي إلاّ حيَاتُنَا الدُّنْيا نمُوتُ ونحْيا ومَا يُهْلِكُنَا إلا الدّهْرُ ﴾ (الجاثية24)، قيل: عُنِيَ به الزّمانُ. (مفردات ألفاظ القرآن ص: 319 – 320).
الـــدّارُ
الدّارُ: المنزلُ اعتبارًا بدَوَرانها الذي لها بالحائط، وقيلَ دارةٌ، وجمعها دِيار، ثُمّ تُسمّى البلدة دَارًا، والصُّقْعُ دارًا، والدّنيا كما هي دارًا، والدّار الدّنيا، والدّار الآخرة، إشارةٌ إلى المَقَرَّيْن في النّشأة الأولى والنّشأة الأخرى. وقيل: دارُ الدّنيا ودار الآخرة. (مفرداتُ ألفاظ القرآن ص:321).
ذَكَــر
الذِّكْرُ: تارةً يُقالُ ويُرادُ به هيئةٌ للنّفْس بها يُمكنُ للإنسانِ أنْ يَحْفَظَ ما يَقْتنِيه من المعرفةِ، وهو كالحِفْظِ إلاّ أنّ الحِفظ يُقالُ اعتبارًا باسْتِحْضارهِ، وتارةً يُقالُ لحضورِ الشيءِ، القلب أو القول، ولذلك قيلَ: الذِّكْرُ ذِكْرانِ:
ذِكْرٌ بالقلبِ.
و ذِكْرٌ باللّسانِ.
وكلُّ واحدٍ منهمَا ضَرْبانِ:
ذِكْرٌ عنْ نِسْيَانٍ.
و ذِكْرٌ لاَ عنْ نِسْيانٍ بلْ عن إِدَامَة الحِفْظِ. (مفردات ألفاظ القرآن ص. 328)
قال بعض العلماء في الفرق بين قوله تعالى: ﴿فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم﴾ (البقرة152)، وبيْن قوله: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتيَ﴾ (البقرة40): إنَّ قوْلَهُ اذْكُرُوني مُخَاطَبَةٌ لأصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم الذين حَصَل لهمْ فَضْلُ قُوّةٍ بِمَعرِفتِه تعالى، فأَمَرَهُمْ بِأنْ يَذْكُرُوهُ بغيْرِ واسطةٍ، وقوله تعالى: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتيَ﴾ مُخَاطَبَةٌ لِبنِي إسرائيلَ الذين لم يَعْرفُوا اللهَ إلاّ بِآلاَئِهِ، فأمَرَهُمْ أنْ يتصوَّروا نِعْمَتَهُ، فَيَتَوصَّلُوا بها إلى مَعْرِفتِهِ. (مفردات ألفاظ القرآن ص329).
الرُّحْــبُ
الرُّحْبُ: سِعةُ المكانِ، ومنه رَحَبَةُ المسجدِ، ورَحُبَتِ الدّارُ: اتَّسَعَتْ، واسْتُعِيرَ للواسعِ الجَوْفِ، فقيلَ: رَحْبُ البطنِ، ولوَاسع الصدر، كما استُعيرَ الضيِّقُ لِضِدِّهِ، قال تعالى: ﴿ضاقَتْ عليهمُ الأرضُ بِمَا رحُبتْ﴾ (التوبة118)، وفلانٌ رحِيبُ الفناءِ: لِمَنْ كَثُرَتْ غَاشِيَتُهُ. وقولُهُم: مرْحبًا وأهْلاً، أي: وجدْتَ مكانًا رحْبًا.
قال الله تعالى: ﴿لا مَرْحَبًا بِهِمْ إنّهم صَالُوا النّارِ. قالُوا بلْ أَنْتُمْ لاَ مَرْحَبًا بِكُمْ﴾ (ص:59/60). (مفردات ألفاظ القرآن ص:346).
لئيمٌ راضِعٌ
لئيمٌ راضِعٌ: استُعير لمن تناهى لُؤمه، وإن كان في الأصلِ لمن يرضَعُ غَنَمَه ليلا، لئلا يُسمعَ صوتُ شَخْبه، فلمّا تعُورفَ في ذلك قيل: رضُعَ فلانٌ، نحو: لؤُم. (مفردات ألفاظ القرآن ص:355).
والشّخْبُ صوت اللّبن عند الحلب.
قال ربيع: وهنا تحضرني قصة لجرير بن عطية الشاعر الأموي المشهور، فقذ ذكر الأصبهاني في الأغاني (ج8؛ص:36 دار صادر) قصّة لطيفة لعلّ من الخير ذِكُرها في هذا الموضِع:
قال الأصمعيُّ حدّثني بلال بن جرير، أو حُدّثت عنه: أنّ رجلا قال لجرير: من أشعرُ النّاس؟ فقال جريرٌ: قم حتّى أعرّفك الجواب، فاخذَ بيده وجاء به إلى أبيه عطيّةَ وقد أخذ عَنْزاً له فاعتقلها وجعل يمصّ ضَرْعها، فصاح به: اخرُجْ يا أبتِ، فخرجَ شيخٌ دميم رثّ الهيئة وقد سالَ لبنُ العنز على لحيته، فقال: أترى هذا؟ قال: نعم. قال: أوَ تعْرِفُه؟ قال: لا، قال: هذا أبي، أفتدري لِمَ كانَ يَشْرَبُ من ضَرْع العنز؟ قلتُ: لا، قال: مخافَةَ أن يُسمع صوتُ الحلب فيُطلَبُ منه لبنٌ، ثمّ قال: أشعر النّاس من فاخرَ بمثلِ هذا الأب ثمانين شاعِرًا وقارعهم به فغلبهم جميعاً.
رُعبُوبة
وجاريةٌ رُعبُوبةٌ: شابّة شَطْبَة تَارَّة.
قال المُحقّق في الهامش: الشّطبة: الحَسَنة، والتّارّة: ممتلئة الجسم. (مفردات ألفاظ القرآن ص:357 مع الهامش).
قال ربيع: عندنا في المغرب طعام يكثر في البوادي اسمه(فُتات الشَّطْبَة). ولعلّ ذلك راجع إلى حِذق الجواري في صنعهذا الطّعام فنُسب إلى حُسنهن. والله أعلم.
ريب المنون
وقوله: ﴿ريبَ المنون﴾ (الطور30).
سمّاه ريبًا لا أنّه مُشكِّكٌ في كونه، بل من حيثُ تُشُكِّكَ فيوقت حُصوله، فالإنسانُ أبدًا في ريبِ المنون من جهة وقته، لا منجهة كونه، وعلى هذا قال الشّاعرُ:
النّاسُ قد علِمُوا أن لا بقاء لهم…ولو أنّهم عمِلوا مِقدارَ ماعلِموا
(مفردات ألفاظ القرآن ص:368).
زَعَــمَ
الزَّعْمُ: حكايةُ قولٍ يكونُ مَظِنَّةً للكذِب، ولهذا جاء في القرآنِ في كلِّ موْضِعٍ ذُمَّ القائلُونَ به، نحو: ﴿زعَمَ الذّينَ كَفَرُوا﴾(التغابن7)، ﴿بَلْ زَعَمْتُمْ﴾ (الكهف48)، ﴿كُنْتُمْ تَزْعُمُون﴾(الأنعام22)، ﴿زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِه﴾ (الإسراء56)، وقِيل للضّمانِ بالقوْلِ والرِّئاسةِ: زَعَامَةٌ، فقِيلَ للْمُتَكَفِّلِ والرّئيس: زعيمٌ، للاعتقاد في قولَيْهِمَا أنّهُمَا مَظِنّةٌ لِلْكذِب. قال: ﴿وأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾ (يوسف72)،﴿أَيُّهُم بِذلك زعيمٌ﴾ (القلم40) إمَّا مِن الزّعَامةِ أي: الكَفَالة، أو من الزَّعْمِ بالقوْلِ. (مفردات ألفاظ القرآن ص:380).
زَكَــا
وبزكاء النّفسِ وطهارتها يصيرُ الإنسانُ بحيثُ يستحقّ في الدّنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة. وهو أن يتحرّى الإنسانُ ما فيه تطهيرُه، وذلك يُنسبُ تارةً إلى العبد لكونه مكتسِبًا لذلك، نحو: ﴿قد أفلح من زكّاها﴾ (الشمس9)، وتارةً يُنسبُ إلى الله تعالى، لكونه فاعلاً لذلك في الحقيقة نحو: ﴿بل الله يُزكّي من يشاء﴾ (النساء49)، وتارة إلى النّبيّ لكونه واسطةً في وصول ذلك إليهم، نحو: ﴿تطهرهم وتزكّيهم بها﴾ (التوبة103)..
(مُفرداتُ ألفاظ القرآن ص381).