من سنن النصر في القرآن حسن فاضلي أبو الفضل

أجهدت نفسي في فهم هذا الذي يحدث من إفساد في الأرض وسفك للدماء، فلا تحليل المحللين ولا سياسة السياسيين ولا كلام المتكلمين استطاع شرحه وتفسيره، ولكن ما إن تأملت كتاب الله عز وجل مستفسرا حتى سبق إلي بالجواب ولما أنتهي بعد من السؤال، وكأني استغربت كما استغربت الملائكة في قول الله عز وجل: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (البقرة:30)، بعد أن أخبرت باستخلاف الإنسان في الأرض. ولكنها إرادة الله تعالى وحكمته في تمييز الخبيث من الطيب، وما يقع الآن في سوريا ووقع قبلها هو ضرب من هذه الحكمة.
ولما قال سبحانه: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (آل عمران:179)، مخاطبا جيل الصحابة رضي الله عنهم، دلَّ ذلك على أن ما دونه من الأجيال أولى بهذا التمييز إلى عصرنا هذا. فما إن تقوم فتنة حتى يتبين لك هذا من هذا، على مستويات الشعوب والعساكر والسياسيين والحكام إلى الدعاة، ومنه كان الناس على ثلاثة أصناف:
– صنف ساكت معتزل[1] للفتنة يمدح عليه لما فيه من الخير، ويعاب عليه تركه الانشغال بأمر المسلمين.
– وصنف عدو يحارب المسلمين ويقتّل أهل السنة وهذا الصنف مستمر من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن استقرت اليوم في فئات: الأولى مجاهرة بالعداوة للمسلمين وبالحرب على أهل السنة. والثانية منافقة تظهر الإيمان عند الضعف وعكسه عند القوة، ومن الفئة الأولى الاتحاد السوفياتي سابقا وأمريكا والصهاينة وأذنابهما حاليا، ومن الفئة الثانية الشيعة[2] في كل مكان، وهؤلاء ومَن هؤلاء يسحقون أهل السنة ويتعبدون الله بذلك -زعموا- فما إن وقفوا على الحافة في هذا الاعتداء على المسلمين السوريين؛ حتى أطلقوها مساندة للمجرم الكبير (بشار)، فيتحقق بذلك قول الله عز وجل (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (آل عمران:179).
فكم من عامة المسلمين خُدعوا فيهم وانساقوا مع خطاب الشيعي الحاقد على أهل السنة (حسن نصر الله)، فاعتقدوا فيه الدفاع عن المسلمين والضعفاء منهم خاصة، ولكن ما إن ظهرت سنة الفَتْن هذه حتى أخرج شوكته متوجها بها إلى السنة في سوريا، فزيف الحقيقة وحرفها وساند أعداء أهل السنة. وهذه هي عقيدتهم عبر التاريخ فما إن يتمكنوا حتى يبدأ الاستلذاذ بقتل السنة وإعدامها، ولكنها فقط سنة التدافع في خلق الله والعاقبة للتقوى.
– صنف ثالث يدافع عن الحق بنفسه وماله ولسانه، وهذا الصنف استمر من زمن النبي عليه الصلاة والسلام وسيبقى بإذن الله إلى قيام الساعة، وقد وعده الله تبارك وتعالى بالنصر فقال سبحانه: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم:47).
فبين عز وجل أن هذا النصر هو “حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرما وتفضلا.. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة)[3]، ثم تلا هذه الآية (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)”[4].
وقال تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد:7) فرتب عز وجل النصر على وجود الشرط الذي هو نصر المؤمنين له، وذلك بنصرهم “لدينه ولكتابه وسعيهم وجهادهم في أن تكون كلمته هي العليا وأن تقام حدوده في أرضه وتتمثل أوامره وتجتنب نواهيه، ويحكم في عباده بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم”[5].
فهذا إذن هو الشرط الذي إذا تحقق في المؤمنين نصرهم الله عز وجل في كل عصر وفي كل أرض.
وكذلك قال سبحانه، (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51)، وفي هذا “تقرير لحقيقة عظمى، وهي أن من سنة الله في رسله أنه ينصرهم بانتصار دينهم وما يهدون ويدعون إليه، وإن طال الزمن واشتدت الفتن والمحن”[6].
ومن هذه الآيات وغيرها نفهم القوانين والسنن الإلهية التالية:
– سنة التدافع بين الحق والباطل: وهو ما أشار إليه سبحانه في قوله (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251). وهذا الصراع بين الحق والباطل معركة لا تنتهي حتى يرث الله الأرض ومن عليها، معركة الحق الواحد مع الباطل المتعدد الأشكال والألوان والأصناف[7]، معركة إيقافها يفسد الأرض وتحريكها يصلحها، معركة قد يظهر على ظاهرها الشر ولكن في حقيقتها الخير والنصر.
فالله سبحانه يدفع بأهل الحق أهل الباطل، وقيام المسلمين بهذا الواجب بنفي عنهم شر ذلك الصراع وتركهم لهذا الدفع يجلب عليهم شرا مستطيرا، وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)[8].
– سنة الأيام سجال بين الناس: فمن رحمة الله سبحانه أن جعل مداولة الأيام سجال بين الناس، من شدة ورخاء، وقوة وضعف، وعز وذل، وصحة وسقم، وغنى وفقر[9]، ولذلك قال عز وجل: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران:140). والآية وإن نزلت في غزوة أحد إلا أن مضمونها باق إلى يوم القيامة، ففيها بعد العزاء الكريم الحكيم ذكر تعالى علة هذا الحدث الجلل والسر فيه، فقال سبحانه: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ).
“أي ليظهر بهذا الحدث المؤلم إيمان المؤمنين (قولا) وفعلا، فالمنافقون رجعوا من الطريق بزعامة رئيسهم المنافق الأكبر عبد الله ابن أبي ابن سلول، والمؤمنون واصلوا سيرهم وخاضوا معركتهم فطهر إيمانهم واتخذ الله منهم شهداء”[10].
فإذن كل هذا القرح المتداول بين الناس، القصد منه معرفة المؤمنين واتخاذ الشهداء. وفعلا ما أعظمه من قرح ذاك الذي تعرض له المسلمون يوم أُحد؛ حتى شج النبي صلى الله عليه وسلم في رأسه وكسرت رباعيته وقتل من المسلمين سبعون[11].
وهذه أعظم مصيبة وقعت للمسلمين في تاريخهم، وبيان رحمة الله تعالى في ذلك أن قال جل شأنه: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:141-142).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] بالمعنى اللغوي لا العقدي.
[2] وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشيعة فرق: منها من غلا إلى حد الشرك والكفر، بل إلى حد التعبد بقتل أهل السنة ومنها ما دون ذلك من البدعة العقدية وغيرها.
[3] صحيح الجامع (6240-6262)
[4] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ج6 ص 180
[5] أضواء البيان، الشنقيطي، 7/257
[6] أيسر التفاسير، الجزائري 3/180
[7] التاريخ الإسلامي،الصلابي 1/33
[8] سنن أبي داود 3/274-285 (سلسلة الأحاديث الصحيحة/11)
[9] التاريخ الإسلامي، الصلابي 1/29.
[10] أيسر التفاسير، الجزائري 1/252
[11] البخاري (4073) وغيره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *