التصوف السني بالمغرب حقيقة أم خديعة (الحلقة السابعة) أبو عبد الرحمن ذوالفقار بلعويدي

التصوف منهج لا أشخاص
لقد سبق أن نبهت في المقال الأول من هذه السلسلة على خطأ منهجي يقع فيه كثير من الباحثين في التصوف، وحذرتهم من خطر التغافل عند التحقيق في كلام المتصوفة من تجاهل مسألة أن التصوف منهج يشتمل على أصول وقواعد ثابتة يعتمدها الصوفي في تعامله مع الكتاب والسنة؛ يتحرك في مجالها، ولا يخرج عن إطارها. وهذا يلزم الباحث في نقولهم؛ فَهْم حقيقة مرادهم منها ومدلول ألفاظهم، وحملها على المعنى المؤدي للمطلوب عندهم وفق قواعد مذهبهم هذه الخاصة بهم.
فإن استقلالية أي مذهب فكريا عن غيره لا تتحقق له إلا باجتماع عناصره التي تعمل على تمييزه عن غيره، في تناسق يصعب معه الفصل بينها؛ ويصبح العمل ببعضها دون البعض الآخر غير واف بتحقيق صفة المذهب.
ومن ثم فإن كل فصل بين كلام الصوفي عن نظامه المعرفي ومرجعيته في التفكير هو خلل منهجي، وتفتيت للتصوف وتجزيء له. وقع فيه دعاة تقسيم التصوف إلى سني وفلسفي جعلهم بعيدون عن إدراك طبيعة التصوف. الشيء الذي ألجأهم إلى تأويل كلام المتصوفة بحيث يلائم ما يسمونه التصوف السني.
فالجنيد -مثلا- وهو سيد الطائفة لا يمكن تجزئة كلامه والعمل على فهم بعضه دون البعض بعيدا عن قواعد التصوف؛ وكلامه هو التصوف في معناه المذهبي. لا يمكن فهم مثل كلامه: “من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة”؛ إلا في إطار منظومة كلامه ومنهجيته في تلقين مذهبه. كقوله مثلا: “الصوفية أهل بيت واحد”. وقوله للشبلي: “نحن حبرنا هذا العلم تحبيرًا، ثم خبأناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رؤوس الملأ”، وكذا قوله له: “لا تفش سرَّ الله تعالى بين المحجوبين”.
وكإخبار الشعراني لنا عنه بقوله: “وكان الجنيد رضي الله عنه لا يتكلم قط في علم التوحيد، إلا في قعر بيته بعد أن يغلق أبواب داره. ويأخذ مفاتيحها تحت وركه، ويقول: أتحبون أن يكذب الناس أولياء الله تعالى وخاصته، ويرمونهم بالزندقة والكفر”.
وكتأكيد ابن عربي لهذا بقوله: “سئل الجنيد عن التوحيد فأجاب بكلام لم يفهم عنه. فقيل له: أعد الجواب فإنا ما فهمنا، فقال جوابا آخر، فقيل له: وهذا أغمض علينا من الأول…”.
وكقول الشعراني عنه: “وكان رضي الله عنه يقول: لا ينبغي للفقير (أي الصوفي) قراءة كتب التوحيد الخاص”.
وكقوله -أي الجنيد-:” لا يبلغ أحد درج الحقيقة حتى يشهد فيه ألف صديق أنه زنديق”. وفي رواية “لا يكون الصديق صديقا حتى يشهد له في حقه سبعون صديقا أنه زنديق…”(1).
نعم؛ هنا وبعد النظر في كلام الجنيد بمجموعه قد يمكن للقارئ المتمرن أن يدرك منهجه وطريقة تعامله مع الألفاظ في التعبير عن مذهبه الذي هو التصوف بالاتفاق.

(الفرق) ومقام (الجمع) في اصطلاح أهل التصوف
يقول الجنيد أيها القارئ: “قربه بالوجد الجمع، وغيبته في البشرية تفرقة”(2)، أليس تقدير قوله هذا هو: (قرب الله بوجد العبد جمع) ووجد العبد هو فناؤه عن الخلق، (وغيبته أي غيبة الله بظهور العبد بمظهر البشرية تفرقة) والتفرقة هي الفرق وحصول التمييز.
ولتدرك أغوار هذا الكلام ومدى تناسقه اقرأ لابن عجيبة المغربي صاحب كتاب (الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية)، وكتاب (إيقاظ الهمم في شرح الحكم) الذي كثيرا ما نبهت في سلسلتي هذه على أن المجلس العلمي الأعلى اعتمده مرجعا في جمع دروس التصوف، ضمن (برنامج تأهيل أئمة المساجد في إطار خطة ميثاق العلماء)، حيث يقول -ابن عجيبة-: “إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه”(3).
فما معنى قوله هذا؟
أفيدونا يرحمكم الله؟
وعلى من يعود ضمير “أناه” في قوله: (إياك أن تقول أناه)؟
أليس معناه احذر أن تبوح للناس أو أن تنطق بقولك “أنا الله”، التزاما بمبدأ السرية كما هو معلوم من مذهب الصوفية وإلا عرضت نفسك لحتفها وفُعل بك مثل ما فعل بالحلاج؟
بل على من يعود ضمير “سواه” في قول ابن عجيبة: “واحذر أن تكون سواه”؟
أليس معناه احذر أن تعتقد أنك سوى الله؟ تعالى الله عما يقول ابن عجيبة علوا كبيرا.
ثم قل لي بربك أيها القارئ الكريم أليس قول ابن عجيبة (إياك أن تقول أناه) يحمل نفس معنى قول الجنيد (قربه بالوجد جمع)، كما أن قول ابن عجيبة (واحذر أن تكون سواه) يحمل نفس معنى قول الجنيد (وغيبته في البشرية تفرقة)؟؟؟
فالتفرقة أو الفرق في تعريف الصوفية أيها القارئ؛ هو: حال شعور العبد بالفرق بين الخالق والمخلوق، برؤيته الخلق مع غياب الحق، وهو الحال الذي عليه جميع البشر وهذا لا يسمى عند الصوفية مقاما. وهو يكون قبل بلوغ الصوفي مقام الفناء الذي هو مقام الجمع.
أما “الجمع” فهو شعور الصوفي بصفات الرب بل تحققه بها في حال اضمحلال نفسه وفنائه عن وجوده وهذا هو الفناء. بمعنى آخر “الجمع” هو شعور الصوفي في حال فنائه عن وجوده باتحاد الخلق والخالق في ذات واحدة. مع رؤية الخالق بلا رؤية الخلق، وهذا حال الفاني عند مقام الجمع أو كما تسميه الصوفية مقام السكر أو مقام المشاهدة.
فهو مقام لا يستطيع فيه الصوفي أن يميز بين كونه عبدا أو كونه ربا، وهذا هو المقام الذي يطلق عليه جهابذة وحدة الوجود مقام (نفي التمييز) أو (نفي الإثنينية).
فالصوفية يعتقدون أنه في حال الجمع وفناء العبد ليس ثم عبد ورب، وليس هناك اثنان إنما (هو هو)؛ كما هو الذكر عند الطريقة البوتشيشية، أي أنه في حال الجمع العبد الفاني هو الله، والله هو العبد الفاني. كما هو قول ابن عربي:
فقال بيني وبين عبدي فمن رآه فقد رآنــي
فلست غيرا له ولا هو لوحدتي في الوجود ثاني
أو كما هو قول الغزالي في كتابه معارج القدس:
وهل أنا إلا أنت ذاتا واحدة وهل أنت إلا نفس عين هويتي(4)
فما رأي علمائنا إذا اختار أحد طلاب التعليم العتيق مثل هذه الكتب وغيرها كثير.. وتلقن منها بعض هذه الحقائق.
أو يرضيكم تسلل عقيدة وحدة الوجود إلى المسلمين واستدراج الطلبة إلى أوحال الحلول والاتحاد تحت ستار “التصوف السني”.
وما هو قولكم في قول الشاذلي “ليكن الفرق في لسانك موجودا، والجمع في جنانك مشهودا”(5) ألا يحمل نفس مدلول قول الجنيد: “قربه بالوجد الجمع، وغيبته في البشرية تفرقة”.
أين أنتم يا أصحاب كتاب “التصوف السني تاريخه وأعلامه بالمغرب” ما هو قولكم في قول عبد الكريم الجيلي في كتابه “الإنسان الكامل” أليس له علاقة بكلام هؤلاء المتصوفة:
-تأمل قوله- أيها القارئ:
فإني ذاك الكل والكل مشهدي أنا المتجلي في حقيقـته لا هـو
وإنـي رب للأنـام وسيـد جميع الورى اسم، وذاتي مسماه(6).
نعوذ بالله، على كل حال نريد أن ندفع الإثم عن أنفسنا. وإلى مقال قادم حتى نرفع النقاب عن حقيقة قول الجنيد في التوحيد “هو إفراد الحدوث عن القدم”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) كل النقول المنقولة هذه تجد مصادرها في المقالات السابقة.
2) كتاب اللمع للطوسي ص 284.
3) الفتوحات الإلهية ص 347.
4) معارج القدس ص 195.
5) إيقاظ الهمم في شرح الحكم ص 389.
6) 1/22

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *