معالم نشأة الفكر الصوفي عند ابن مسرة ذ. طارق الحمودي

تعتبر إشكالية نشأة الفكر الصوفي في الغرب الإسلامي من الإشكاليات التي تناولها كثير من الباحثين بقصد إيجاد صيغة جواب تاريخية وفكرية مقنعة تشرح طبيعة النشأة وظروفها ومعالمها، وقد لاقت هذه المحاولات صعوبات من حيث قلة المادة المؤسسة للجواب، وضعف الترابط التاريخي والفكري بينها وعدم وضوح حركة التطور، فقد تحدث الباحثون عن (الزهد) في القرون الأربعة الأولى، وعرضوا تاريخه بمعلومات شحيحة عن زهاد ذكروا في كتب التراجم مع تحليلات لا تمكن من تأسيس نظرية تخص النشأة والمعالم، وتراهم يتحاشون استعمال كلمة «الصوفية « والتصوف « بسبب سلطة النصوص التاريخية التي أطرت بحوثهم، والتي تأبى إلا تأخير ظهور هذا المصطلح في قواميس التراجم.
وعلى حد تعبير «منويلا مرين» فإنه: «لم يكن يتمتع بشعبية كبيرة بين مؤلفي كتب التراجم»، ثم تنفرج كتاباتهم بعد ذلك على مشتقات «ص و ف» بدء بأوائل القرن الرابع الهجري، وكان أول من وصف به عبد الله بن نصر القرطبي، ثم يجتمع الباحثون أو يكادون حول شخصية واحدة، اعتبرت بدء مرحلة جديدة من تاريخ التصوف الأندلسي، تكاد تكون منفصلة عن سابقتها شكلا ومضمونا، وكان محمد بن عبد الله ابن مسرة بن نجيح القرطبي علمها الأبرز، والذي عده الباحثون بذرة التصوف الفلسفي الذي ستنبت شجرته، ويتعاهدها ثلة من المنتسبين لمدرسة بمعنى الكلمة على حد تعبير الجابري في نقد العقل العربي.
ولا يزال الغموض -كما يقول الدكتور جمال البختي- يلف الكثير من تفاصيل هذه المدرسة في بداية تكوينها إلا أن ما هو أكيد هو أن ابن مسرة شكل بفكره وآرائه الملامح الأولى للمدرسة الباطنية ببلاد الأندلس.

ابن مسرة في محضن اعتزالي
تذكر المصادر أن والد ابن مسرة كان تاجرا، سافر إلى المشرق، وتأثر بالفكر الاعتزالي على يد البصريين، وعاد به إلى الأندلس، وغالبا ما كان مثل هذا التأثر يصاحبه جلب كتب المذهب المختار، تنضاف إلى مكتبته الخاصة لينضاف إلى معتزلة قلة كانوا بالأندلس كما عند عبد السلام غرميني في المدارس الصوفية المغربية والأندلسية في القرن السادس، وكان من الطبيعي جدا أن يكون لذلك كله أثر في التكوين الفكري لابن مسرة، وكذلك كان الأمر، فقد وصف بكونه متكلما معتزليا، والذي سيعني نوعا من الاستعلاء الفكري والتحرر من السياج الثقافي الذي كان رائجا في زامنه، والخروج -كما يقول ابن الفرضي- عن العلوم المعلومة بأرض الأندلس الجارية على مذهب التقليد والتسليم، مندفعا إلى حب المعرفة والانفتاح على علوم الأوائل، ومن ثم اكتساب تكوين جديد ينضاف إلى اعتزاله، والذي لم يكن إلا التصوف الفلسفي.
الفكر الفلسفي الباطني اليوناني
يتحدث بعض الدارسين عن تأثر شديد لابن مسرة بالفكر الغنوصي لفلاسفة وحكماء اليونان، كأنبذوقليس، وقد دعم التطابق الكبير بين فكر الرجلين نظرية التأثر، كما لا يستبعد تأثره بالفلسفة الفيثاغورية التي تعد أحد تجليات التصوف داخل الفكر اليوناني، مع وجود كتب بالأندلس في الفلسفة وتاريخها ومقالاتها ككتاب فورفوريوس «أخبار الفلاسفة وقصصهم وآراؤهم» وغيرها.
وقد أشار صاعد إلى بدء مدارسة العلماء لهذه الكتب ونظيراتها وما فيها في الأندلس منذ عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم، ولم يكونوا ظاهرين بذلك.
ومن اللافت للنظر ما عرضه المستشرق «أسين بلاثيوس» في كتابه من كون فكر ابن مسرة كان متأثرا أيضا بالتصوف النصراني، والذي يرجع في أصله إلى التصوف الفيضي الأفلوطيني، وقد حاول بعض الدارسين رفع هذه الدعوى، بزعم خصوصية الفكر الصوفي الأندلسي، ولكن طبيعة الفكرين، والتشابه الكبير بينهما لا تستبعد هذا التأثر ولو من طرق غير مباشرة.
كتب الفلسفة المشرقية
مما يذكر في التاريخ أن الخليفة الأموي بالأندلس عبد الرحمن الأوسط أرسل عباس بن ناصح إلى العراق لاستجلاب كتب الفلسفة والعلوم القديمة إلى مكتبته، وقد أتاه بذخائر ونفائس منها، وكانت نواة المكتبة الأموية في الأندلس والتي سيطلع عليها ابن باجة فيلسوف المغرب في العهد المرابطي، ولا يستبعد أن يكون مثلها قد وقع بيدي ابن مسرة فتأثر بها أيضا.
الفكر الحراني الهرمسي
من الأمور المثيرة، والتي قل من انتبه لها، دخول بعض الحرانيين إلى الأندلس، بل الحديث عن هجرة لأسر حرانية إليها في القرن الرابع الهجري، وأنا في شك من أن يكون انفرط عقدهم فيها بإسلامهم وعدم بقاء أحد منهم فيها في مطلع القرن السادس الهجري، وعذري في هذا أن الفكر الباطني لا ينفك عن السرية والتقية، بل والمؤامرة، ولا يبعد أن تكون هجرتهم إليها بدأت قبل ذلك، وكان فيهم التجار والأطباء والكيميائيين، ومن غريب الأخبار أن بعض التجار الحرانيين الذين استوطنوا الأندلس سيرسل ولديه إلى حران خاصة لدراسة الطب والفلك، وربما أشياء أخرى، ومثلهما عمر بن عبد الرحمن الكرماني الذي رحل إلى حران وعاد إلى سرقسطة برسائل إخوان الصفا.
لا يميز بعض الدارسين بين الإسماعيلية والصابئة الحرانيين، كما فعل محمد عبد الحميد الحمد فجعل لأحد مباحث كتابه «صابئة حران وإخوان الصفا» عنوانا مثيرا هو: «إخوان الصفا هم صابئة حران»، ومعلوم أن الفكر الصوفي لم ينج من التأثير الحراني الهرمسي الغنوصي، في عملية تمرير على حد قول الجابري، أو مؤامرة كما سبق ونبهت عليه.
ومما يذكر في هذا الباب إمكانية تأثر ابن مسرة بكتب أبي بكر الرازي التي كانت قد دخلت الأندلس عن طريق التجار المشارق، وإن نفى ذلك سالم يفوت.
الفكر الإسماعيلي بالأندلس
اختلف في وقت دخول رسائل إخوان الصفا إلى الأندلس، فذهب صاعد في الطبقات إلى أن دخولها كان بعد منتصف القرن الرابع، وأنه لم يعلم أن أحدا أدخلها من قبل إلى الأندلس، في حين يذهب جمال علال البختي إلى أن دخولها كان قبل منتصف القرن الثالث!
والذي يهمنا هنا هو مدى تأثير الفكر الإسماعيلي في تكوين العقل المسري، وقد أشرت إلى دخول ابن مسرة تونس، ومخالطة الإسماعيلة وفق تعبير الجابري.
رحلة ابن مسرة
من المعلوم أن ابن مسرة رحل إلى المشرق مرورا بأفريقية، ومعلوم أيضا أن الفكر الإسماعيلي دخل أفريقية مع الطبيب إسحاق بن عمران الملقب بساعة في أواخر القرن الثالث في أيام حكم زياد بن عبد الله الأغلبي، والذي ترك بها تلميذا يهوديا اسمه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي، ولعل هذا مما دفع عبد العزيز بنعبد الله إلى أن يصفه في الموسوعة المغربية بكونه أحد دعاة الإسماعيلية، وهو ما قد يفسر حالة التضييق التي طالت مدرسته على يد القاضي ابن زرب.
وقد دخل ابن مسرة أفريقية في زمان تلميذ ساعة، فارا بسبب ما اتهم به من الزندقة كما يقول ابن الفرضي، وهو يدل على أن مرحلة التصوف الفلسفي كانت ربما قد بدأت عند ابن مسرة باكرا قبل سفره، ولا يستبعد تأثره أيضا بانتشار الفكر الإسماعيلي في أفريقية، ومن الراجح أن يكون اطلع على الرسائل ثم في الفترة التي بلغ نشاط الدولة الفاطمية الفتية أوجه من الناحية السياسية والدعائية كما يقال محمود مكي في كتابه «التشيع في الأندلس منذ الفتح حتى نهاية الدولة الأموية» وتابع رحلته إلى المشرق حيث لقي بمصر ذا النون وغيره ثم عاد متشبعا بفكر جديد على أهل الأندلس.
كل هذا يضع الباحث أمام إشكاليات حقيقة تخص نشأة الفكر الباطني في الأندلس، والإجابة عنها ستفتح بابا لإشكاليات أخرى تخص هذه المرة الفكر الباطني المعاصر في المغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *