روحانيات (ج2) بقلم لطيفة أسير

 

«شفاء لما في الصدور»

«واعبد ربك حتى يأتيك اليقين»

كانت بلسمًا وهي تصافحني ذاك المساء، ترياقًا غسل ما علا القلب من وحشةٍ، وخفف وطأة الخيبات، وبدّد سحباً كادت تفتك بهذا القلب الضعيف. كأنها تهمس لي هذا المساء:

لا تلتفتي.. لا تأْبهي.. وامضِ على درب العبادة حتى يأتي أمر الله.. عضي على درب الله بالنواجذ ولا تستسلمي لما يعرض على القلب من شبهات أو شهوات.

ألفيتها وصية جامعة ما أحوجنا إليها في زمن الغربة هذا، فهي العصمة لكِ من كل فتنة، هي الضمان لبقائك مع من لا يضام عنده إنسان، مع من عهدت منه الأمن والأمان، والدفء على الدوام.. «فالمداومة المداومة، فإن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت» كما قال الإمام الحسن البصري رحمه الله.

 

المتاهة

كثيرا ما أسمع في استجوابات أهل «الفن» غبطتهم بمسارهم المهني، وحمدهم الله على توفيقه لهم في مشوارهم الفني (غناء، رقص، تمثيل)، وكم يشعرون بالفخر حين يَتم تتويجهم في المهرجانات، ولو عاد بهم الزمن لما اختاروا غير ذاك المسار. فأعجب من قولهم وأتذكر ما قال الحق سبحانه في كتابه العزيز ﴿إن الله لا يرضى لعباده الكفر﴾، فكما أن الله لا يحب لعبده الكفر وهو أكبر المعاصي، فإنه يُبغض له المعصية مهما بلغت درجتها، ولهذا يضع له منبهات كثيرة في حياته عساه يفطن ويؤوب لطريق الصواب، فإن أصرّ على ضلاله واستمرأ ضياعه  وكَلَه لنفسه وشيطانه. فاحذر أخي أن تحبّ المعصية وإن ألفيت التوفيق يحالف خطوك في سيرك إليها، واربأ بنفسك أن تكون ممن ران على قلوبهم فغدت الطاعة والمعصية عندهم سواء!

 

أحباب الله

«يا جبريل إني أحبُّ فلاناً فأحبَّه»

ما أبهى هذا الحبَّ من الله لعبده الصالح، حبٌّ آسرٌ بما يغْدقه الرب على العبد من نعمٍ يرفُلُ فيها فيغدو وليّاً من أوليائه، يعيش في ظل معية ربانية تقيه الوقوع في الزلل، فكل جوارحه حفَّتها الرعاية الإلهية، وغدتْ نورانية في سعيها محمدية في سيرها. ألا يهُزّك الحنين للظفر بهذا الحب وأنت تقرأ «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها» ألا ينتشي فؤادك طربا وهو يسمع هذا الوعد الصادق «ولئن سألني لأعـطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»؟ فكيف نغفل عن هذا النعيم ونشقى بحب الدنيا ومتاعها؟

 

السّتّير

مَن منَّا نحن الخطّاؤون المذنبون لا يهتز قلبه فرحاً، ويُمنِّي نفسه شعفا بهذا المقام وهو يقرأ حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «يدنو المؤمن (أي من ربه تعالى) حتى يضع عليه كَنَفه فيقرره بذنوبه: تعرف ذنب كذا؟ يقول: أعرف، يقول: رب أعرف مرتين، فيقول: سترتها في الدنيا وأغفرها لك اليوم ثم تطوى صحيفة حسناته». إنه جمال السّتر الربّاني حين يُسبله الحقّ سبحانه على العصاة من أمته في الدنيا، ويمعن في كرمه فيرخيه عليهم في الآخرة.. تذوب حبّا أمام هذا الفيض الربّاني من السّتر.. فاللهم لا تهتك لنا سترا في الدنيا ولا في الآخرة.

 

سر السعادة

حتى يستقيم سيرك في هذه الحياة الدنيا، عوِّدْ نفسك على اكتساب سعادتك ممن وهبك هذي الأنفاس وأذِن لها بالشهيق والزفير، وإياكَ أن تجعلها أسيرةَ أشخاصٍ أو أحداثٍ معينة، فالأشخاص يأتون ويرحلون، والأحداث تستقيم و تعوج، لكن الثابت والدائم هو الله، فكن بجانبه تستشعر الرضا ولو في زحمة المحن.

 

الذنوب

الذنوب في عُرف من استمرأها عادات مستباحة، أقرها العرف بجهله، والقلب بطغيان شهوته، والعقل باتكاله على الهوى، لكنها في عرف من لم يُغَلّف الرَّانُ قلَبَه سياطٌ تجلده كل حين مهما أقلع وتاب عنها، لأنها جرأة على الله لا تستقيم وجلال قدره وعظيم فضله، وأكبر العزاء للمذنبين المستغفرين إقبال الله عليهم عند كل أوبة واستشعارهم ذاك الصَّغار حين فارقوا نقاءهم الملائكي وانغمسوا في تلك النزعات الشيطانية.

 

عبث

حين يغيب الوازع الديني، فإن المشاعر الإنسانية مهما كانت عظيمة تفقد قيمتها لأنها تحرم العبد من أعظم النعم وهي لقاء الله تعالى و الفرح بالنظر إليه. جميل أن تسمع أن هناك زوجين تقاسما حلاوة الحياة ومرارتها 64 سنة، قصة حب ووفاء قلَّ نظيرها في عالمنا المادي، حتى أنهما فكرا في تخليد هذه الذكرى بالانتحار سويا كي لا يتألم أحدهما لفراق صاحبه أولا. لكن ما قيمة هذا الحب العظيم إن كانت نهايته بغيضة إلى الله وستحرمك خير الدار الآخرة؟ ما قيمة وفائنا لبعضنا إن كان هذا الوفاء سيزج بنا في نار نلتظى بلهيبها ونكون بسببه من الأشقياء؟

 

واقع مرير

من الحكايات المفيدة التي سمعتها ذات يوم بأحد المجالس العلمية -والتي تؤكد أن الأجنبي حين يُسلم، يكون أشد ثباتا ويقينا من كثير ممن نشأوا في حضن الإسلام منذ نعومة أظفارهم-  أن رجلا مغربيا تزوج امرأة روسية فأسلمت حين سمعت عن قيم الإسلام ومبادئه. وحدث أن قدِما إلى المغرب، وفي الطائرة لفت انتباهها وجود فتيات كنّ يرتدين عباءات وحين صعدنا للطائرة قُمن بخلعها، فلما سألت زوجها أخبرها أنهن من البلدة (الفلانية) المسلمة، فاستغربت، و زادت صدمتها بل غضبها حين تعرفت على أسرة زوجها، حيث وجدت كل أخواته متبرجات، فما كان منها إلا أن رفعت دعوى تطليق من زوجها. وبعد سنتين من محاولات الصلح عادا لبعضهما.

الجميل في الأمر تلك الغيرة والحمية التي أخذتها على دينها الذي اعتنقته عن حب واقتناع، والتي يفتقدها الكثير منا للأسف!

 

ليلة العمر

ليلة العمر عند كثير من الناس هي ليلة الزفاف، لكنها عندي أرقى وأسمى، أراها في تلك الليلة التي يُنعم فيها الله عليك بشهود ذاك الاحتفاء الرباني بالحجيج في صعيد عرفات، فتبكي وتتضرع وتدعو حتى يباهي الرحمن بعبادتك صفوة خلقه ويقول وهو العفو الغفور: «أُشْهِدُكُم أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُم».. أليس هذا الميلاد السعيد هو ليلة عمرك التي تجُبّ كل خطاياك وتثقل ميزانك وقد نِلت الحظوة والمقام الرفيع.. فتؤوب إلى وطنك وليدا جديدا؟!

لكن عجبي كيف تنتكس حين تعانق ديارك بعد هذا الموقف العظيم!!

 

سَدِّدوا وقارِبوا

نغَّص عيشنا كثير من الغلو في شتى مجالات الحياة، فبين متشدد ضيَّق كل وُسْع، وألزم الأمة بما لم يلزمها به ربها. ومتساهل وسّع في المباحات بما لم يأذن به الله، ضاعت ثوابت الأمة واعْوجَّ سيرها. ولو أننا سرنا في شِعب الوسطية النبوية لنجونا من كل أشكال التطرف. فمعلم الأمة يقول صلى الله عليه وسلم: «فسدّدوا وقاربوا»؛ ومعناها كما قال المباركفوري: ..إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يقرب منه. وقال الحافظ: أي لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة، لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل، فتفرطوا.

 

الأذكار

من جماليات ديننا الحنيف، أذكاره التي لا تعتبر حروفا منمقة ينطق بها العابد، بل هي أسلحة ملّكها الله لعبده المؤمن ولا يسترخصها إلا من ضعف يقينه بها، فالعبد حين يقول مثلا: (حسبي الله ونعم الوكيل) فقد اعترف بمنتهى ضعفه وأوكل الأمر كله لمن بيده الحول والقوة، ولا أمان للعبد إلا مع سيده، فهو الذي يقوي ضعفه، ويجبر كسره ويسدد رميه، لهذا تراها تنزل بردا وسلاما على الناطق بها حين يكون مظلوما، وتحلّ كالصاعقة على ذاك العتلّ حين تقرع سمعه.

 

أنفاس الصيف!

شدة الحرّ..

وجهٌ من أوجه الابتلاء خصوصا للمرأة المسلمة التي اختارت ارتداء لباسها الشرعي، وتحمّلت وطأة هذه اللحظات ابتغاء مرضاة ربّها.

فكانت حجة على تلك التي استرخصت جسمها فأبتْ إلا أن تجعله سلعة مُهانة تُعرض أمام العيون الجائعة باسم «جسدي – حريتي».

لكن ثقي يا من تجرّدت من لباسك أنّ شعورك بالحرّ أشد وأعظم، من تلك التي تُبصرينها و قد غطت شعرها وارتدت جواربها و أسدلت نقابها.

فهنيئا لكنّ يا من وضعتنّ نصب أعينكن حرّ جهنم فهانت عليكن حرارة هذه الأيام.

 

لا تعْجل..!!

في أقدار الله لطائف إلهية نغفل عن إدراك كنهها لجهلٍ يتملكنا، أو عجلة تستبدّ بنا تستمدّ جذورها من طبيعة خلقتنا كما قال ربنا (خُلق الإنسان من عجل). فيا حبّذا لو أن النّفس تتريّث وتتسلح بسلاح الإيمان، وتذعن بقلب راضٍ لتصاريف القدر عسى تُبصر العاقبة المحمودة للتدابير الربّانية.

أخوة

ليتنا نُدرّب أنفسنا على عيش أهل الجنة، فنخالطُ بعضنا مخالطةً فيها وِدٌّ وصفاء، ترقى عن سوء الظن والكره والحسد وكل الرذائل، حياة قال عنها رب العزّة «ونزعنا ما في قلوبهم من غلٍّ إخوانا». نعم إخوانا، هذه الأخوة التي تعتبر أوثق العرى.. أخوة نشتاق جميعا لأن نحياها بعد أن  أتتْ عليها «دابة النفس» كما أتتْ دابة الأرض على المنسأة.

كفى خنوعًا!!

لمَ نعطي الدنيّة في ديننا؟ لمَ نبالغ في تبرير أعمالِ نعلم يقينا أنّ ديننا منها براء، وأنّ الطرف الآخر لن ينصت إلا لأسطوانته المشروخة التي عكف على تسجليها منذ عقود.

أشعر بالأسف حين أرى شعارات وأغاني ووقفات ترفع شعار: أنا مسلم ولست إرهابيا.

فليقولوا ما شاؤوا ولنا في رسولنا الأسوة الحسنة، حين كان المشركون ينادونه (يا مذمم) فيغتاظ الصحب الكرام، والحبيب المصطفى يقول بكل ثقة «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم يشتمون مذمماً، ويلعنون مذمماً وأنا محمد».

أنا.. مسلمة وكفى.. افهمني كما شئت.. وقل عني ما شئت.. فلن أضع كلامك إلا دبر أذني!!

 

العيد

لأن العيد اسم يبعث على الفرح والسرور، وجب اغتنام لحظاته للترويح عن النفوس التي مزّقت المحن أوصالها و بعثرت النوائب كيانها.. هو فسحة ربانية موسمية وهبها المولى سبحانه لعباده، وعطايا الرحمن لا تُجابه إلا بقلب مُفعم بالرضا والرضوان. فتلقَّفْ أخي المسلم هذه النفحة الربانية وعشْ لحظاتها بكل امتنان فما هي إلا لحظات ويعيد الزمن دورته، وتُطل الفتن كسابق عهدها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *