تاج الدين الحسيني*: فتح القنصليات بالصحراء عملية جريئة وهناك ثلاثة سيناريوهات للوضع بالمنطقة بعد عملية الكركرات |
ما قراءتكم للعملية العسكرية التي قامت بها القوات المسلحة المغربيةلتنظيف منطقة الكركرات من عناصر البوليساريو؟
في اعتقادي، السلطات المغربية خاصة القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية أدارت هذه العملية بكثير من الحكمة والرزانة مع تفادي إسقاط قطرة دم واحدة. فالعملية تمت على أساس أن عدة اتصالات تمت أولا مع كل جميع الجهات المعنية بما فيها الأمانة العامة للأمم المتحدة والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، أيضا مع ممثلي قوات بعثة المينورسو، وكل هذه الجهات طالبت عناصر البوليساريو بالتراجع ولم يجدي كل ذلك نفعا، وظلت طريق الكركرات التي تمثل شريان حيوي يربط بين المغرب وموريتانيا ودول إفريقيا الغربية ودول جنوب افريقيا ما وراء الصحراء مغلقة في وجه الحركة التجارية والمدنية. وكان تدخل الجيش المغربي لإعادة الوضع إلى ما كان عليه، وكان التدخل سلميا الى أبعد الحدود ولم يكتسب أي طابع حربي وذي صبغة عدوانية وتمت إقامة طوق أمني على المنطقة المنزوعة السلاح بالكركرات، ودفع مليشيات البوليساريو التي قامت باحتلال المنطقة مجددا نحو شرق الجدار الأمني.
بطبيعة الحال كانت البوليساريو تنتظر مثل هذا النوع من العمليات لتتنصل من اتفاق وقف اطلاق النار الذي التزمت به الأطراف منذ سنة 1991 وحاولت أن تثير زوبعة في فنجان من خلال الزعم بأنها قصفت منطقة المحبس والجدار الأمني وعدة مناطق أخرى ولكن تبين من الملاحظين الموجودين في عين المكان، أن تلك مجرد فقاعات إعلامية هدفها بالأساس محاولة إفهام الرأي العام الدولي بأن المغرب هو الذي خرق وقف اطلاق النار وأنها فقط تقوم برد فعل على أساسه دخلت الأطراف الحرب بل انها ذهبت الى القول بأنها تلغي وقف اطلاق النار وتعلن الحرب مع المغرب. المسألة الكبرى تكمن في من بادر إلى تغيير الوضع القائم الذي هو مستقر منذ سنة 199، الذي بادر هو البوليساريو بطبيعة الحال ومن وراءها الجزائر، لأنه لا يمكن أن يبعث بعشرات أو مئات الأشخاص والمليشيات للتجمع في منطقة عازلة ومنزوعة السلاح دون أن يكون هناك نية مسبقة من طرق قيادة البوليساريو حتى لا يقال أن ذلك التجمعات كانت ذات طبيعة تلقائية. أيضا لا يمكن لأي شخص أن يغادر ميخمات الحمادة أو تندوف دون أن يكون هناك إذن خاص من طرف الدرك الوطني الجزائري وكذلك من طرف المخابرات العسكرية الجزائرية، وبالتالي سوء النية المبيت من الطرفين معا سواء البوليساريو أو الجزائر واضحة للعيان.
هناك تحليل يقول أن استعادة المغرب للمنطقة العازلة في الكركرات، تبعث رسالة بأن المغرب قادر على تطويق كل المنطقة العازلة، وبالتالي إجبار البوليساريو على العودة لمخيمات تندوف الموجودة فوق الأراضي الجزائرية، ما مدى صوابية هذا التحليل؟
لا أظن أن المغرب سيذهب بعيدا في إحتواء المنطقة العازلة مرة واحدة، ولكن الذي اعتقد من مصلحة المغرب أن يمارسه الآن هو تمديد الجدار الأمني الممتد بين المغرب والجزائر وهذا سيغلق نهائيا الطريق على البوليساريو للوصول للمنطقة العازلة وبالتالي إذا ما دخل هؤلاء عن طريق التراب الموريتاني يجب أن تتحمل موريتانيا مسؤوليتها بهذا الخصوص. والمنطقة العازلة وضعت بالأساس للفصل بين إمكانية أي تدخل من طرف البوليساريو أو حتى الوصول إلى الجدار الأمني وهذا الجدار يتوفر على تجهيزات للرصد الإلكتروني عن بعد ومجهز من طرف الجيش المغربي بالآليات العسكرية الضرورية لمواجهة أي إعتداء. وبالتالي المغرب لا يضيره في شيء أن تبقى المنطقة العازلة وفق الاتفاق العسكري قائمة بالمنطقة. وكان من الممكن تضييقها، تحجيمها أكثر لمنع البوليساريو اطلاقا من الزعم في يوم من الأيام ما يسمونه بالأراضي المحررة، وأنهم يقومون بعمليات عسكرية بتلك المنطقة ووضع مؤسسات ادارية بها، رغم أن كل الأفعال التي قاموا بها في هذا الخصوص تمت إدانتها من قبل الأمم المتحدة، وطولبت البوليساريو دائما بافراغها.
منذ السنة الماضية والمغرب يحقق انتصارات دبلوماسية في قضية الصحراء المغربية، أبرزها فتح قنصليات كثيرة بالأقاليم الجنوبية، ما مستقبل الملف بناء على هذه المستجدات الدبلوماسية وحتى العسكرية التي نسمع عنها اليوم؟
فتح القنصليات العملية عملية جريئة قام بها المغرب ابتداء من السنة الماضية ومما يشجع على استمرار فتح هذه القنصليات هو أن قرار مجلس الأمن الذي صدر مؤخرا في 29 أكتوبر لم يُدِن اطلاقا فتح القنصليات بالصحراء المغربية هذا في حد ذاته مهم بالنسبة للمغرب، لأن اتفاقية التعاون القنصلي بفيينا تدخل هذا الاطار في علاقة سيادية ثنائية بين الدولتين وفتح القنصلية في حد ذاته يشكل اعترافا صريحا بالسيادة الوطنية للدولة المستقبِلة من طرف الدولة التي قامت بإيفاد قنصليتها.
لكن أكثر من ذلك هذه العملية تشكل نافذة في تعاون حقيقي بين الطرفين سواء على المستوى التجاري أو المدني أو الاستثماري أو الاقتصادي. وفتح القنصليات عمل من أعمال السيادة، فهي تؤكد الصبغة المغربية للصحراء. وعندما تأتي القنصليات لتضيف ذلك الإعتراف الدولي بالسيادة المغربية هذا يقف ليواجه بقوة ما تزعمه البوليساريو بأنها انشأت جمهورية للصحراويين إلا أن هذه الجمهورية لا توجد إلا في الخيال.
مستقبل الأوضاع، شخصيا يمكن أن أرسم ثلاث سيناريوهات أولها سيناريو الأمل وثم سيناريو التطورات العسكرية وأخيرا التطورات مع الجزائر.
سيناريو الأمل هو الذي يقوم على أن الأوضاع ستهدأ وأن النظام الجزائري سيعي خطورة أي مواجهة مع المغرب وينصاع لقرارات الامم المتحدة وسيعمل على متابعة المفاوضات في إطار الممكنالذي تحدث عنه مجلس الامن، وهو أن يكون حل ملف الصحراء حل سياسي مطبوع بالواقعية والبراغماتية، وهذا ما يعبر عنه مشروع الحكم الذاتي الذي سيبقى الحل الوحيد الذي رحبت به كل الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وكل قرارات مجلس الأمن الصادرة منذ 2007 إلى اليوم.
والسيناريو الثاني هو أن تستمر البوليساريو فيما شرعت فيه وستستمر في إصدار بلاغات عسكرية تصرح فيها بأنها قامت بعمليات عسكرية ضد الجيش المغربي، والحقيقة أن ذلك مجرد فرقعات في فراغ لسبب بسيط لأنه عادة هذه عمليات تدخل في اطار حرب العصابات التي تهدف الى استنزاف الطرف المغربي والخروج الى الاعلام العالمي ان هناك حرب بالمنطقة، أعتقد أن هذه العملية لن تفلح أبدا لأن الحدود المغربية اليوم منذ أن أقيم الجدار الأمني انتهت هذه الخرافة ومضى ذلك الزمن الذي كانت فيه البوليساريو تقوم بهجوم على مناطق داخل الصحراء المغربية وتختطف الجنود والمواطنين وتعتقلهم.
السيناريو الثالث وهو الأخطر أي أن تستمر هذه العمليات وأن يتدخل الجيش الجزائري بحيث قال السيد شنقريحة بأن الجيش سيكون مستعدا لمحاربة الإرهاب وكذلك مواجهة العدو الكلاسيكي للجزائرأي المغرب، وبالتالي اعتقد أن كل ما تذهب اليه الجزائر اليوم من تسلح وتجاوز للحدود ومن تحويل لمواردها من البترودولار التي تحققها الى التسلح، فهي الأولى افريقيا في ذلك وهذا شيء خطير وهدفه الأساسي هو خلخلة توازن القوى الإقليمي الشيء الذي سبق وأن كان موضوع تدخل المرحوم الحسن الثاني لدى الأمم المتحدة لمطالبتها بمراقبة سباق التسلح بالمنطقة.
لكن تدخل الجزائر سيكون مغامرة،لأن توازن القوى الاقليمي سيكونلصالح المغرب فالداخل المغربي مُجْمِعٌ تماما على قضية الصحراء بل سيدافع عنها إلى آخر رمق، في حين أن الجزائريين لا وجود لإحساس وطني جمعي لديهم على الاطلاق تجاه قضية الصحراء، بل المسألة محصورة في ذهن بعض القيادات العسكرية بالنظام الجزائري، أيضا هناك قيادات تنتقذ تدخل الجزائر في ملف الصحراء والبوليساريو.
ولكن في اعتقادي إذا ما عادت كل من المغرب والجزائر إلى نفس التوجه لبناء مغرب عربي متكامل وعادت إلى التواصل والاندماج المطلوب، فربما الجزائريون كذلك سيتمتعون بنفس الحقوق ويتمتعون بنفس المكتسبات التي يمتلكها المغاربة. ولكن استمرار غلق الحدود والتقوقع في نفس العقيدة العسكرية العقيمة لدى الطرف الجزائري، سيقضي بكل أسف على مسار التعاون والاندماج الذي هو مطلوب في المستقبل القريب للبقاء على قيد الحياة في ظل تحديات العولمة والارهاب والقوات الكبرى التي تريد أن تكون بلدان الجنوب تابعة لها وليس طرفا في التعاون معها.
ــــــــــــــــــــــــ
*تاج الدين الحسيني: أستاذ القانون الدولي بالرباط ونائب رئيس مركز دراسات الأندلس وحوار الحضارات.