الدولة الخمينية بين طه عبد الرحمن والنخبة الشيعية طارق الحمودي

الحمد لله أما بعد، فهذه هي القراءة النقدية الثانية لما كتبه الدكتور الفاضل طه عبد الرحمن في كتابه الجديد “ثغور المرابطة“، ومتعلق هذه القراءة موقفه من دولة الخميني في إيران. فقد زعم الدكتور أن الخميني أبدع في سبيل إقامة دولته الشيعية بتجاوزه لأربع عقبات فكرية، وهي عقيدة الوصية وعصمة الأئمة والغيبة وضيق التقليد الفقهي.

قلت: وهنا تنبيهان، الأول، أن النخبة الشيعية سبقت الدكتور إلى هذا، فكانت ترى أن الصفات الكافية في الولي الفقيه الحاكم للدولة هي «العدالة لا العصمة، بمعنى أن الولاية الفقهية هي امتداد للإمامة من حيث وظائفها العامة،عدا ما يتصل بالنص الخاص على كل فقيه فقيه، وبالعصمة الموقوفة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من بعده فقط»[1]..، ومع ذلك فـ«الفقيه العادل هو الوحيد المخول بالاتصال بالله»[2] عن طريق العرفان الصوفي في غيبة الإمام فرجع الأمر إلى العصمة والنص مرة أخرى!

أما اعتقاد كون الخميني قام ضد الظلم و«قوى الاستكبار العالمي يتقدمها “الشيطان الأكبر” الذي هو الولايات المتحدة الأمريكية و”الغدة السرطانية” التي هي إسرائيل»[3] وفاء للمسجد الأقصى كما يفهم من سياقات الدكتور طه فغفلة عن الحقائق من وجهين، أما الوجه الأول فإنه في الوقت الذي كان فيه الخميني يظهر لعن أمريكا وإسرائيل كان «في السر يتعامل معهما ويستقبل شحنات الأسلحة الإسرائيلية والأمريكية»[4]، والمتخصصون يعرفون حقيقة «التعاون المشترك بين الخميني وإسرائيل منذ 1980 وصفقات السلاح وقطع غيارها ودور اليهود في الاقتصاد الإيراني» بالوثائق، وقد فاق ما كان زمن الشاه..!.[5].

وأما الوجه الثاني فإن الشيعة يعتقدون أن المسجد الأقصى في السماء، وليس هو الموجود ببيت المقدس كما نصت عليه رواياتهم[6]!

والتنبيه الثاني أن الخميني لم يكن مبدعَ ومبتدعَ “ولاية الفقيه المطلقة“، ولم يكن من أقام شرط العدالة والعلم مقام العصمة والوصية لتجاوزهما كما ادعاه الدكتور طه كما سيأتي بيانه، بل كانت ولاية الفقيه فرصة تاريخية استغلها الخميني لمحاولة التمكن السياسي من رقاب الشيعة في العالم صنعها في حضن فرنسا ورعايتها، وإنما كان إبداعها قبله بمئات السنوات، فقد حققها ودعا إليها العلامة الشيعي علي بن الحسين العاملي الكركي، والملقب بالمحقق الثاني[7]، ومن نصوصه في ذلك قوله: «اتفق أصحابنا على أن الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل، فيجب التحاكم إليه والانقياد عن حكمه»[8]، واحتج لذلك برواية عن جعفر الصادق، وعليها اعتمد الشاه الصفوي “طهماسب” في فرمانه الذي أصدره لتعيين الكركي “وليا فقيها مطلقا” على الدولة الصفوية، وجعله «في الواقع صاحب الاختيار، وإنما الملك هو وكيل للمحقق ونائب عنه في إدارة شؤون البلاد السياسية والإجرائية»[9].

زعم الدكتور طه أن الخميني تجاوز بنظرية ولاية الفقيه المطلقة من سبقه مثل أحمد النراقي الذي نسب إليه نظرية ولاية فقيه غير مطلقة، وهذا غريب، فالمعروف أن أحمد بن مهدي النراقي  يمثل مرحلة متطورة من تاريخ ولاية الفقيه المطلقة، ومن نصوصه في ذلك مثلا قوله: «كل ما كان للنبي والإمام الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام فيه الولاية وكان لهم فللفقيه أيضا ذلك إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما»[10]، وهي تعليقات نظرية توافق تعليقات ولاية الفقيه الخمينية!

لابد من التنبيه هنا على أن هذه الدولة الخمينية كانت مبنية على ثلاثة أركان: ركن سياسي وركن فقهي وركن صوفي عرفاني، وكان الجانب العرفاني الصوفي عميقا في الفكر السياسي الخميني، وهو الذي ميز الدولة الشيعية الخمينية، ويرجع فيه إلى التصوف الفلسفي الإشراقي[11]، بل نص الخميني في رسالته إلى غورباتشوف على أن الأصول الفكرية لدولته راجعة إلى تصوف ابن عربي في وحدة الوجود وفلسفة الفارابي وابن سينا الفيضية في قدم العالم وأمثالهما[12]!! وهذا هو أساس الولاية التشريعة التي تعطي «حق التشريع لمن يملك علما ربانيا ووحيا إلهاميا، وتطلق ويراد بها أن للولي أن يأمر وينهى، وعلى الآخرين أن يطيعوه ويمتثلوا أوامره ويجتنبوا نواهيه»[13] .

لم يكن قصد الخميني من الجمع بين الديني والسياسي تصحيحا لوضع سياسي منحرف عند المسلمين، بل سعى الخميني للجمع بين المرجعية الدينية الشيعية والولاية السياسية لكي لا يبقى هناك أية سلطة على الشعب غير السلطة الخمينية فلا ينافسه عليها أحد، مع نوع من التمويه بإيهام الناس بأن اختيار الولي الفقيه يكون للأمة بالانتخاب، لأنه هو نفسه لم يكن منتخبا، والانتخاب عنده مبدأ ضروري لتفادي انهيار الدولة الخمينية، مع أن هذا الانتخاب محصور في نخبة المؤمنين بولاية الفقيه الداخلين في سلك الخمينية المستفيدين منها جاها ومالا!

ولذلك أمر جميع خطباء الجمعة في ذلك الوقت بالدفاع عن سلطته «حتى لا يقع الناس في شباك أولئك الذين أرادوا زعزعة ثقتهم بهذا المبدأ المقدس، وقد كان أساس تلك الشبهات ومنشؤها هم الأعداء…»[14]، فرمى الخميني كل جهة تعارض ما دعا إليه بالعداوة للشيعة وإيران، وأقلها أن المنتقد لها بالكلمات جاهل في نظرهم، ولذلك كان الخميني «يواجه تلك الكلمات من أي شخص ومقام بكل قوة وشدة وأقلها إنه رحمه الله كان يؤنبهم ويخاطبهم قائلا: إنكم لم تفهموا مسألة ولاية الفقيه»[15]. وهذه أقلها، وأشدها حبل المشنقة.

تقوم ولاية الفقيه الخمينية إذن على منع أي حق للشعب في اختيار من يحكمه خلاف الأدبيات الفقهية عند أهل السنة، فالضمانة الكبرى في زعم المؤمنين بولاية الفقيه والمادح لها «في عصر الغيبة ليس في ولاية الأمة على نفسها، بل.. في مبدأ ولاية الفقيه»[16]، وهذا هو أصل الاستبداد في إيران والذي كان بالتاج ثم صار بالعمامة![17]. والذي يراد أن يحكم به العالم كله، هذا الفكر المتأله الصوفي الباطني الاستبدادي الاستغلالي يصفه الدكتور طه عبد الرحمن بأنه «تقويم الاعوجاج الذي لحق مفهوم البيعة عند أهل السنة أنفسهم»[18].

السؤال الذي شغلني أثناء القراءة والنقد هو ما الذي يقصده الدكتور طه بتقديم الدولة الخمينية العرفانية للقارئ بهذه الطريقة ؟ وعلى كل حال، فهذا نقد معتصر من مختصر لبعض ما نشره الفيلسوف الدكتور الفاضل طه عبد الرحمن، وفي المقال المقبل إن شاء الله “نقد القراءة التاريخية للخلاف السني الشيعي عند طه عبد الرحمن“!
————————————-
[1] “الإمامة حتى ولاية الفقيه ص49”.

[2] المصدر نفسه، ص51.

[3] ثغور المرابطة ص3.

[4]  “نقد ولاية الفقيه ص12”.

[5] المصدر نفسه، ص277.

[6] يراجع لهذا كتاب “الشيعة والمسجد الأقصى” لطارق أحمد حجازي.

[7] عبد الله أفندي الأصفهاني في “رياض العلماء وحياض الفضلاء” (3/441).

[8] “رسائل المحقق الكركي”(1/142و143).

[9] مرتضى مطهري في “الإسلام وإيران” ص373.

[10] «عوائد الأيام في بيان قواعد استنباط الأحكام» (2/93) .

[11] “من العرفان إلى الدولة” ص102و103و105.

[12] “دعوة إلى التوحيد” ص16.

[13] “بحوث في ولاية الفقيه” ص8

[14] المصدر نفسه، ص107.

[15] “نظرة جديدة في ولاية الفقيه” ص10

[16] “بحوث في ولاية الفقيه” ص111.

[17] “نقد ولاية الفقيه” ص12

[18] “ثغور المرابطة” ص72.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *